أطباء مصر.. من حلم الثراء إلى التساوي في الفقر مع عامة الناس

وكالة أنباء حضرموت

أثار انتشار إعلان رسمي على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر يفيد بخلو عدد كبير من وظائف الأطباء في مستشفيات جامعة الإسكندرية، حالة غضب ضد الحكومة، حيث ارتبط بوجود استقالات شبه جماعية أو عزوف عن الوظيفة من جانب بعض الأطباء، بسبب الأوضاع الصعبة التي يعيشونها.

وفيما يوحي وضع الأطباء بالثراء والوفرة، إلا أنهم يجدون أنفسهم فقراء مثلهم مثل الآخرين من عامة المصريين، وهو ما يفسر استقالاتهم من القطاع العام وتخطيط الغالبية للهجرة. ويكفي أن هناك 12 طبيبا مصريا يتقدمون للسفر إلى الخارج يوميا، أو يميلون إلى العمل الحر بعيدا عن المستشفيات الحكومية بسبب سوء المعاملة والرواتب الهزيلة وتشريعات تهدد وظيفة الأطباء.

وجاءت واقعة اعتداء عضو في البرلمان على طبيب داخل مستشفى في محافظة الدقهلية، شمال القاهرة، لتعمّق غضب الأطباء وتزيد الأزمة تعقيدا أمام صمت الحكومة عن محاسبة النائب أو إجباره على الاعتذار، مع أن قانون المسؤولية الطبية الذي مرره البرلمان مؤخرا، وتحفظ الأطباء عليه، حاولت وزارة الصحة تجميل صورته بأنه يستهدف حماية العاملين في القطاع الصحي ومساءلة المعتدين عليهم.

طبيب تقدموا في 2024 بمطالب للهجرة، بمعدل 12 طبيبا في اليوم، ما يستدعي تدخلا سريعا لمعالجة الظاهرة

وقال نقيب الأطباء أسامة عبدالحي إن استقالة الأطباء وهجرتهم نتيجة طبيعية للواقع الذي يعيشونه، ويصعب توجيه اللوم لهم، وما يحدث يقود إلى المزيد من مآسي القطاع الصحي في البلاد، لأن الأرقام مفزعة، وهناك حوالي سبعة آلاف طبيب تقدموا بمطالب للهجرة إلى الخارج العام الماضي، وهذا يشير إلى أزمة تحتاج إلى تدخل سريع لعلاج الأسباب التي قادت إلى هذا التوجه بعيدا عن ترحيل المشكلة.

وشمل الإعلان المثير للجدل طلب مستشفيات جامعة الإسكندرية 117 طبيبا في تخصصات نادرة، يفترض أن عليها تهافتا من الأطباء، ما يعكس عمق الأزمة التي يعانيها القطاع الصحي دون اكتراث من الحكومة أو البرلمان الذي ناقش المشكلة، واستدعى وزير الصحة وواجهه بحقيقة استقالة 4261 طبيبا العام الماضي فقط.

واتهمت نقابة الأطباء قانون المسؤولية الطبية بأنه قاد إلى زيادة أعداد استقالات الأطباء من المستشفيات الحكومية، وضاعف الضغوط على أبناء المهنة لما تضمنه من عقوبات مالية وإدارية على أي طبيب يُخطئ، مع أن الحكمة تقتضي مناقشة حقوق الأطباء قبل العقوبات وإصدار تشريعات تثير خوفهم على أوضاعهم المهنية.

وسوف تصدم زيادة استقالات الأطباء الحكومة بأزمة معقدة عندما تقرر تعميم منظومة التأمين الصحي الشامل، وهو مشروع حيوي لتقديم رعاية طبية لائقة إلى المواطنين لتأكيد رؤية الدولة لحقوق الإنسان بينما تحتاج المنظومة الصحية توفير الآلاف من الكوادر.

وأكد أمين عام نقابة الأطباء المصريين سابقا إيهاب الطاهر أن أزمة استقالة الأطباء وهجرتهم ستعرقل مشروعات قومية ضخمة، مثل المبادرة الرئاسية “بداية جديدة” وفي الأصل منها الصحة، وتعطّل مشروع التأمين الصحي الشامل، ولا يمكن التحجج بالظروف الاقتصادية، لأنه يُمكن حلها بالتوازن في الإنفاق بين الاستثمار في البشر وإنجاز المشروعات القومية.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أنه لا يحق للحكومة منع أي طبيب من السفر، والمشكلة تكمن في الأجور المتدنية وعدم وجود حماية أثناء العمل مع استمرار التعنت الإداري ضد الأطباء، ولا بد من تدخل الدولة لتكريس الحق في الصحة، كأبرز حقوق الإنسان في مصر، مع الابتعاد عن المقترحات الاستفزازية للحل مثل منع الأطباء من السفر قبل عشر سنوات من التخرج أو تحصيل ما أنفقته الحكومة على تعليمهم إذا قرروا الهجرة.

طبيبا مصريا يتقدمون للسفر إلى الخارج يوميا، أو يميلون إلى العمل الحر بعيدا عن المستشفيات الحكومية

ويتمثل جزء من تداعيات الأزمة في أن الدولة تعول على عدم اكتراث البسطاء بوجود حريات سياسية من عدمه، وما يعنيهم توفير خدمات صحية وتعليمية ومساعدات اجتماعية جيدة، وهؤلاء يُعتمد عليهم لتعزيز وضعية حقوقية غير سياسية في البلاد، وأصبحت خطوات الحكومة تشوه تلك المساعي الرئاسية بالتوازي مع تحديات إقليمية مركبة تحتاج إلى تكاتف الشارع خلف رأس السلطة.

واستغل خصوم النظام المصري، وفي مقدمتهم جماعة الإخوان، أزمة استقالات الأطباء كجزء من ثأر سياسي قديم، ما جعل مناصرين للسلطة يطالبون بتدخل الرئيس عبدالفتاح السيسي لإعادة التوازن إلى الخطة الاستثمارية للحكومة لأنها صارت تتمادى في ارتكاب أخطاء وسّعت الهوة بينها وبين الشارع، بزيادة أسعار الخدمات والسلع بصورة استفزازية، وتجاهل مشكلة معقدة في أهم قطاع خدمي كالصحة.

ويمكن اختصار أزمة الحكومة مع تحسين وضعية الحقوق الاجتماعية في إصرارها على بناء الجدران قبل توفير الكوادر؛ فقد تتوسع في إنشاء صروح طبية ضخمة بمدن جديدة ومناطق نائية، ولا توفر الحد الأدنى من الرضا الوظيفي للأطباء، وتكون النتيجة صفرية بما يجلب معارضة مجتمعية لا تقودها أحزاب أو قوى سياسية، بل يكون أعضاؤها من العامّة.

وقد لا يحتاج حل أزمة الاستقالات بين صفوف الأطباء إلى معجزة بقدر ما يرتبط الأمر باقتناع الحكومة بأنها تعاني من تخبط في الأولويات، فهي لا تمانع في الإنفاق ببذخ على مشروعات تنموية مقابل تهميش نظيرتها الخدمية مثل الصحة، وترفض أن تتحرك بتوازن بين المسارين بما يحقق أغراضها ويرضي كل الأطراف ولا يقود إلى أزمات لها ارتدادات مرتبطة بصورتها العامة ورؤيتها الحقوقية.

ويتعامل البرلمان مع أزمة استقالة الأطباء وهجرتهم بتهور محاولا البحث عن مخرج، حيث رأى بعض النواب أن الحل في إصدار قانون يقضي بحظر استقالة أعضاء المنظومة الصحية، ما تسبب في تعقد المشكلة وترحيلها حتى تحول الغضب ضد الحكومة من فئات طبية إلى انتقاد شبه عام من حقوقيين ومواطنين ونقابيين.

ويعزز ذلك شعورَ الأطباء بأن الحكومة غير جادة في حل الأزمة رغم أنها شكلت لجنة لدراسة تحسين أوضاعهم منذ أكثر من عام، ولم تخرج بنقاشات أو توصيات ما أوحى بأن الأمر لا يخرج عن كونه محاولة للتخدير أو التهدئة مقابل أن تكسب الحكومة المزيد من الوقت، ما يُحتم على السلطة التدخل لترميم صورة حقوق المصريين الاجتماعية.