مصر تعتمد وثيقة "الأخوة الإنسانية" الإماراتية لنشر التسامح
استقرت مصر على الاستعانة بوثيقة “الأخوة الإنسانية” التي وُقعت في دولة الإمارات العربية المتحدة بين شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان (الراحل) لتكون أقرب إلى إستراتيجية دولة، تستهدف نشر قيم التسامح والتعايش والتآخي بين الأجيال الجديدة، ويبدو أن الحكومة المصرية فقدت الأمل في استمالة الفئات المتقدمة في السن، فقررت استهداف الطلاب من المراهقين والشباب.
وتعهد وزير التربية والتعليم محمد عبداللطيف لشيخ الأزهر أحمد الطيب قبل أيام بتعميم إدراج وثيقة “الأخوة الإنسانية” في المناهج الدراسية، لينشأ الأطفال والمراهقون على القيم النبيلة التي تكرس قبول الآخر، وتغذي التعايش دون قيود أو تمييز ديني، وتقطع القاهرة شوطا في طريق التسامح، بعيدا عن المسارات التقليدية للمؤسسات الدينية.
واستضافت الإمارات في نوفمبر 2019 المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية، ونظمه مجلس حكماء المسلمين، لتفعيل الحوار حول التعايش والتآخي بين البشر والتصدي للتطرف الفكري وإرساء قواعد إنسانية جديدة بين أهل الأديان والعقائد المتعددة، تقوم على احترام الاختلاف، وتزامن مع المؤتمر توقيع وثيقة الأخوة بين شيخ الأزهر أحمد الطيب والبابا فرنسيس، والذي رحل عن دنيانا أخيرا.
وأكدت الوثيقة أن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام وإعلاء قيم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وأن الحرية حق لكل إنسان، اعتقادا وفكرا وتعبيرا وممارسة، وأن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، قد خلق الله البشر عليها وجعلها أصلا ثابتا تتفرع عنه حقوق حرية الاعتقاد وحرية الاختلاف، وتجريم إكراه الناس على دين بعينه أو ثقافة محددة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر.
واستهدف لقاء شيخ الأزهر ووزير التعليم في مصر وضع خطة محددة للتسريع في نشر وثيقة “الأخوة الإنسانية” في المناهج الدراسية، دون اقتصار على مرحلة تعليمية بعينها، بحيث يتم إدراج المفاهيم الإنسانية بشكل مبسط وسهل بما يتناسب مع عقلية الشريحة المستهدفة من كل صف دراسي، وتقوم الخطة على تعميم الوثيقة في المدارس.
ولم تشهد القاهرة إستراتيجية واضحة ومحددة للتسامح والتعايش بعيدا عن اختزال مضامينها في مؤسسات دينية إسلامية وقبطية وما يتفرع عنها من مساجد وكنائس ومؤسسات دعوية، وكانت الإشكالية كامنة في التركيز على سن تشريعات صارمة تعاقب التمييز الديني وتكبح الفتاوى المتشددة، ومواجهة الخطاب التحريضي ودعاة الفتن.
وأدركت الحكومة المصرية أن إلقاء عبء تكريس التسامح داخل المجتمع على كاهل المؤسسات الدينية وحدها لن يفضِي إلى نتائج ملموسة، وسوف يظهر أي تحرك من هذا النوع أمام الناس كأنه منفصل عن البيئة الاجتماعية، والحل يكمن في وجود رؤية واضحة ومعترف بها من رموز دينية تحظى بتوافق دولي، مثل وثيقة “الأخوة الإنسانية”.
ويدعم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تلك الخطوة، بحكم أنه من أكثر الداعين إلى حرية الاعتقاد وعدم رهن علاقات البشر بفتوى أو وصاية دينية، أيا كان مضمونها، بما ينسف مفهوم الدولة المدنية التي يجاهد لتأسيسها تحت مظلة الجمهورية الجديدة، والعلاقة بين المسلم والمسيحي أكبر من تبادل رسائل بين رموز الأزهر والكنيسة.
وأظهرت ردود فعل بعض المنتمين إلى تيارات إسلامية، من سلفيين وإخوان، تجاه الخطوة إلى أي درجة تتعامل تلك الشريحة بريبة من أي تحرك يستهدف تقريب المسافات بين أصحاب العقائد، فهم الذين زرعوا في أذهان فئة معتبرة أن المسيحيين كفار، وتهنئتهم بالمناسبات الدينية حرام، والتآخي معهم ضد الدين، وكارهون للإسلام.
ومثّل دعم شيخ الأزهر لتعميم وثيقة “الأخوة الإنسانية” في المناهج التعليمية انتكاسة للسلفيين، لأنهم طوال الوقت يُظهرون الدعم غير المحدود للأزهر ويقولون إن النظام الحاكم يستهدف إقصاء الشيخ أحمد الطيب، لأنه يتمسك بالثوابت، ويحشدون الشارع ضد أي استهداف ينال من الأزهر، حتى جاء موقف الطيب صادما للكثير منهم.
وأكد شيخ الأزهر أن المؤسسة الدينية تدعم أي جهد يستهدف غرس القيم الأخلاقية في عقول الأجيال الصاعدة دون استثناء، بهدف ترسيخ مبادئ السلام والتفاهم والتسامح والمساواة ونبذ العنف والتطرف، لأن التعليم ركيزة أساسية لتحقيق كل هذه القيم، ولا يجب أن تُركز المناهج على الجانب المعرفي فقط، بل تؤسس للتراحم والعدل وقبول الآخر واحترام الاختلاف.
وحمل كلام الطيب اعترافا متأخرا بصعوبة نجاح المؤسسة الدينية وحدها في تكريس التسامح كثقافة مجتمعية يؤمن بها المواطنون، ولو الفئة الشبابية فقط، لأسباب ترتبط برواسب قديمة ظهرت مع صعود تيارات متشددة كان لها تأثير بتبني فتاوٍ مضلة تُحرّم التقارب بين أصحاب الديانات وتكرس الفرقة بين المسلمين والأقباط.
والميزة أن وثيقة “الأخوة الإنسانية” صالحة لكل الثقافات، ومفرداتها سهلة وبسيطة وتستوعبها العقليات المختلفة، من كبار وشباب وأطفال، أي أنها بمثابة منهج تعليمي عصري ولا تحتاج إلى المزيد من المرونة والفهم والشرح، ويكفي إدراجها في أي منهج دراسي ليكون المتعلم محصنا من أي فكر متطرف، ويعي جيدا كيف يمد جسور التواصل والتآلف والمحبة مع غيره.
ومن شأن دعم الأزهر للخطوة وتبنيه لها أن تكون حرية اختيار الدين حاضرة في خطابه، على عكس إصرار الكثير من علمائه على تجنب التطرق إلى هذا الحق الإنساني، خشية الصدام مع عناصر متشددة، لكن يبدو أن التغيير الراهن مرتبط بمواءمات سياسية مع حكومة تسعى لتكريس التعايش ونشر ثقافة المواطنة كجزء من المواجهة الفكرية ضد المتشددين.
وهناك رسائل محبة بين قادة المؤسسات الدينية، الإسلامية والمسيحية، لكنها تظهر في توقيتات محددة مرتبطة بالمناسبات الخاصة بكل عقيدة، وإن كانت الرسائل جزءا من حل مشكلة قبول الآخر، إلا أن رموز الديانتين تؤكد حتمية حضور المؤسسة التعليمية لدعم التسامح والتعايش كي لا يتم توصيف القضية باعتبارها دينية بحتة.
وتُدرك الحكومة تلك المعضلة، لأن المجتمع المصري بطبيعة تركيبته السكانية يعاني فجوة واضحة بين الأجيال القديمة والجديدة حول النظرة إلى الدين، وثمة الكثير من الآباء والأجداد أخذوا ثقافاتهم الحياتية من جماعات إسلامية متطرفة تنظر بريبة لأيّ تجانس بزعم أنه يدمر الهوية الدينية، أما الشباب فهم الفئة الأكثر شغفا بالتلاحم دون النظر إلى العقيدة.
وأكد الباحث في شؤون العقائد والبرلماني المصري السابق محمد أبوحامد أن إدراج “الأخوة الإنسانية” في المناهج التعليمية بداية واقعية لتأسيس أجيال واعية تؤمن بنبذ العنصرية والفرقة وتتعامل بتآخ ولا تؤسس علاقاتها الاجتماعية على الديانة، ومن الطبيعي أن تواجه تلك الخطوة برفض واسع من عناصر متشددة لا تريد تقاربا بين أصحاب العقائد.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن التركيز على المراهقين والشباب كأكبر شريحة مجتمعية خطوة نحو بناء قيم إنسانية مستدامة، لأن الاستثمار في تلك الفئة مهم للغاية في إعادة تشكيل وعي المجتمع وتحصينه ضد الأفكار السلبية التي تقوم على النظر إلى الآخر بريبة لمجرد أنه مختلف في العقيدة، والمهم أن يتم تعميم “الأخوة الإنسانية” في كل المناهج العامة والأزهرية.
وحال تحركت المؤسسة التعليمية بجدية في تعميم وثيقة “الأخوة الإنسانية” داخل المناهج، فإن المجتمع سيكون قادرا خلال فترة قصيرة على تجاوز إشكالية التعايش على أساس إنساني بين المسلمين والمسيحيين، ويكفي أن الجيل الصاعد داخل البيئة المدرسية يضم أكثر من 25 مليون طالب وطالبة من المؤهلين للتعاطي بوعي وتحضر مع إعادة التعريف بالانتماء العقائدي.
ويكفي أن المراهق المسلم إذا درس وتعلم مبكرا يدرك أن زميله وأخاه المسيحي لديه نفس القيم النبيلة في ديانته، وكلاهما سوف ينشأ على ذلك الفكر وتلك الثقافة، ويصعب أن يتأثر أي منهما بدعوات أو فتاو تبث الفرقة أو العداء والفتن الطائفية، على عكس الأمية المجتمعية تجاه ما تحمله كل ديانة من تعاليم إنسانية، وما سببه ذلك من تشكك وتشدد.