من غوبلز إلى أبوعبيدة وأدرعي الكل يعكس صورة نظامه
يقول المثل العربي الشهير “كل إناء بما فيه ينضح” ويقابله في الغرب مثل شبيه يقول إن “ما في البئر يخرج بالدلو”، أي أن كلام الإنسان يفضح ما بداخله، وهي حكمة ربما تنطبق أيضا على الأنظمة والدول وليس فقط على البشر.
في الكثير من دول العالم يعدّ اختيار المتحدث باسم الدولة أو الجيش قرارا إستراتيجيا انطلاقا من كونه ليس فقط شخصا يقرأ البيانات، وإنما أداة من أدوات العلاقات العامة التي يملكها النظام، وتعكس جوهره ومضمون رسائله للشعب أو الدول الأخرى، ومن هنا تأتي أهمية توافر بعض السمات في الشخص المختار لتلك المهمة، مثل الشكل، الخلفية، النبرة، واللهجة باعتبار أن كل ما سبق جزء من الرسالة السياسية للنظام.
المتحدث، ويمكن أن نتأكد من ذلك بنظرة سريعة على شخصيات المتحدثين باسم بعض الأنظمة والدول في الماضي والحاضر، سواء أكان عسكريا أم مدنيا، فإن القاسم المشترك لديه يحمل الكثير من صفات النظام الذي يمثله، وربما يجمعه أيضا الكثير من السمات المشتركة مع رأس هذا النظام، بداية من جوزيف غوبلز وزير الدعاية في عهد النازية وزعيمها أدولف هتلر، والذي يمكن اعتباره أول متحدث علني معروف باسم نظام سياسي.
وفقا للمتاح من معلومات عن غوبلز، فقد عانى في طفولته من مرض أصاب قدمه، وترك أثرًا في مشيته، ما أثّر على نفسيته وخلق لديه شعورا دائما بالنقص، وترك أثرا على شخصيته ليتحول إلى رجل شديد التقلب العاطفي، وأكثر ميلا إلى الغضب والانفعال، ويملك رغبة عارمة في السيطرة المطلقة، إلى جانب نقمته الشديدة على المجتمع الذي لم يتقبله بعاهته وجعله مادة للتنمر والسخرية.
ونشأ هتلر نفسه يشكو من العنف الأسري وافتقار الحب الأبوي، ما ترك أثره عليه في صورة مشاعر عدائية تجاه الآخرين، وافتقاد دائم لأيّ تعاطف معهم، وهكذا كان كلاهما يحمل إحساسًا دفينًا بـ”المظلومية”، ويتلذذ بلعب دور الضحية المنتصر، وكانت المفارقة الختامية التي جمعت بينهما هي اختيارهما طريقة الرحيل، حيث قرر هتلر الانتحار بعد التأكد من هزيمة قواته، وقبل أن يقع أسيرا في يد قوات التحالف، وفي اليوم التالي قرر غوبلز قتل زوجته وأولاده وانتحر في ولاء يشبه “طقوس الانتحار الجماعي“.
يتذكر العراقيون محمد سعيد الصحاف الذي كان يشغل منصب وزير الإعلام في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، وتصدى لمهمة المتحدث باسم النظام خلال فترة الغزو الأميركي للعراق عام 2003، واشتهر بتصريحاته الحماسية التي لم تكن تتفق نهائيا مع الوقائع التي كانت تجري على الأرض، وهو ما عرضه للسخرية من الإعلام الغربي الذي أطلق عليه لقب “Comical Ali” أو “علي المضحك، واختارته مجلة تايم الأميركية ضمن قائمة “أفضل 10 وزراء إعلام كوميديين في التاريخ.“
ورغم الاختلافات الواضحة بين شخصية صدام الكاريزمية المؤثرة وشخصية الصحاف المسرحية لم يخل الأمر من بعض السمات المشتركة، حيث أتقن الاثنان فن التضليل الإعلامي واختلاق الحقائق، من خلال تقديم تصريحات بعيدة عن الواقع، فمثلا نقل عن صدام تهديده للقوات الأميركية قبل بدء غزوها للعراق، قائلا “ستحترق الأرض تحت أقدام أعدائنا،” وهي تهويشات واصل الصحاف ترديدها طوال الغزو، حيث نقلت عنه تصريحات مثل “لا يوجد أميركيون في بغداد إنهم يفرون مثل الكلاب” في وقت كانت فيه الدبابات الأميركية تسير في شوارع العاصمة العراقية.
كان صدام حسين والصحاف يمثلان وجهين لنفس النظام، ويتبعان نفس الخطوط السياسية والإعلامية، مع وجود الفروق الشخصية بينهما، حيث امتلك صدام شخصية مهيبة سهلت عليه التأثير في من حوله، في حين كان الصحاف بمثابة أداة إعلامية مسرحية لرئيسه، يعكس خطاباته المبالغ فيها ويحاول تقديم صورة وردية عن النظام، رغم المعاناة الفعلية التي كان يواجهها العراق.
متحدثة ترامب
في الولايات المتحدة، يكفي إلقاء نظرة سريعة على شخصية كارولين ليفيت المتحدثة الحالية باسم البيت الأبيض التي تولت المنصب في 20 يناير الماضي، لنكتشف أنها تحمل العديد من السمات المشتركة مع الرئيس دونالد ترامب، حيث نشأت في أسرة من طبقة رجال الأعمال المتوسطة، وكانت تمتلك أعمالا تجارية ما جعل الفتاة تدخل سوق العمل والتجارة في وقت مبكر، مثلما فعل ترامب نفسه.
ويمكن ملاحظة أن ليفيت تملك الكثير من صفات الرئيس الأميركي الشخصية، مثل المباشرة والصراحة التي لا تخلو من حماقة في بعض الأحيان، كما أنها تتسم بالسطحية والغرور وعدم المبالاة بالآخرين، وقد وصلت في التماهي مع رئيسها درجة جعلتها تستخدم مفرداته في بعض الأحيان، مثلما فعلت مؤخرا حين كررت تهديد ترامب للصين وتحذيرها من الرد على قراراته برفع الرسوم الجمركية، واستخدمت نفس كلماته التي ذكر فيها أن الصين ترتكب “خطأ إستراتيجيا واضحًا” بردها على السياسات الأميركية.
ولعل أبرز وجه تشابه بين ليفيت ورئيسها يتمثل في موقفهما الصارم المشترك من فكرة الهوية الجنسية أو الجندرية، والرفض التام للقبول أو حتى التعامل مع مزدوجي الجنس أو المثليين، وبعد أن أعلن ترامب في حفل تنصيبه في يناير الماضي أنه لا يعترف سوى بوجود رجل وأنثى فقط، اتخذت ليفيت قرارا في أبريل الحالي بعدم الرد على الصحافيين الذين يدرجون ضمائرهم في توقيعات البريد الإلكتروني.
ومن واشنطن إلى غزة حيث شخصية أبوعبيدة الناطق باسم كتائب عزالدين القسام وحركة حماس، الذي يتشابه في الكثير من الصفات مع معظم القادة العسكريين للحركة، بداية من الغموض الكبير الذي يحيط بشخصياتهم وأسمائهم الحقيقية، وهو غموض تفرضه طبيعة الخطر الذي يواجهونه يوميا أمام التهديدات الإسرائيلية المستمرة، ولهذا جرى الاعتياد على أن معظم قادة حماس العسكريين يحرصون على إبقاء هوياتهم وأماكن إقامتهم مجهولة لأسباب أمنية، وهي نفس الأسباب التي تجعل أبوعبيدة يختار عدم الكشف عن وجهه وهو يدلي بالبيانات العسكرية للحركة.
على خلاف القادة السياسيين لحماس مثل خالد مشعل والراحل إسماعيل هنية وغيرهما، تتميز خطابات أبوعبيدة وبياناته بكونها مختصرة وعملية بعيدا عن الإفراط في اللغة الخطابية، حيث يظهر فيها حرص القيادة العسكرية للحركة على ترك المعلومات التي تتضمنها تلك البيانات لتؤدي دورها في رفع الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وتؤكد على عدم استسلام كتائب المقاومة أمام ضراوة الاعتداءات الإسرائيلية.
أدرعي سلاح نتنياهو
هناك أفيخاي أدرعي المتحدث العسكري للجيش الإسرائيلي، وهو وجه مألوف للعرب من خلال ظهوره وتفاعله المستمر معهم على وسائل التواصل الاجتماعي، مستغلا إتقانه اللغة العربية، خصوصا اللهجة المصرية بحكم أنها الأوسع انتشارا.
يستخدم قدراته التفاعلية لتبرير المواقف الإسرائيلية العدوانية، كما يظهر كثيرا كوجه للجيش الإسرائيلي في وسائل إعلام عربية مطلقا أكاذيب حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المعتادة، بداية من تأكيد حرص الجيش الإسرائيلي على حماية المدنيين، وأن عملياته العسكرية في غزة موجهة فقط ضد المجموعات المسلحة الفلسطينية وفقا للأعراف الدولية، وأن حماس وحزب الله يستخدمان المدنيين كدروع بشرية، بينما يحرص الجيش الإسرائيلي على الالتزام بإجراءات دقيقة في أيّ عملية عسكرية لتجنب إلحاق الضرر بالمدنيين قدر الإمكان، هكذا يزعم دائما.
يشترك أدرعي مع نتنياهو في بعض السمات، أبرزها القدرة الفائقة على قلب الحقائق وإطلاق الأكاذيب باستمرار دون الاهتمام بما إذا كانت مقنعة لمن يسمعونهما أم لا، ودون التوقف كثيرا عند حقيقة أن ما حدث في الواقع يخالف تماما ما يزعمانه، كما يشترك الاثنان في امتلاك صفة المراوغة والخطاب الناعم للتغطية على الوقائع.
وظيفيا يمتلك نتنياهو وأدرعي قدرات إعلامية مؤثرة، ويقتسمان مجال استغلال تلك القدرات فيما بينهما سواء كان ذلك بترتيب مسبق أم بالصدفة، حيث يتمتع أفيخاي أدرعي بمهارة إعلامية عالية في تقديم خطاب الجيش الإسرائيلي للعالم العربي، حيث يستخدم قدراته للتواصل مع العرب وتبرير العدوان الإسرائيلي عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بينما يستخدم نتنياهو قدراته الخطابية للترويج لموقف إسرائيل من قضايا الأمن و التوسع الاستيطاني، ومحاولة التأثير في الرأي العام الدولي، خصوصا الغربي بحكم معرفته العميقة به.
سريع وجماعة الحوثي
هناك كذلك العميد يحيى سريع المتحدث العسكري باسم جماعة الحوثيين، والذي يعد من الوجوه التي برزت بشكل كبير منذ اندلاع الحرب الأهلية في اليمن عام 2014، حيث بات ظهوره مألوفا في وسائل الإعلام التي تغطي النزاع اليمني، وكذلك على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.
مثل معظم القادة المحسوبين على إيران في اليمن ولبنان والعراق وغيرها، برع سريع في تطويع لغته الخطابية لإقناع المستمعين بأن الطرف الذي يمثله هو الضحية، ورغم نبرة صوته الصاخبة المتحدية التي تميز بياناته العسكرية دائما، يحرص المتحدث الحوثي على استهلالها بجمل تدغدغ مشاعر المستمعين العرب، مثل حرصه مؤخرا على بدء بياناته بعبارة “انتصاراً لمظلومية الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للقتل والتدمير والحصار في قطاع غزة” بما يمهد الأرض أمام المستمعين لقبول ما يقوله دون تمحيص، وهو ما يتشابه مع حزب الله اللبناني مثلا في الحرص على توظيف القضية الفلسطينية، وتصديرها للمستمعين باعتبارها الجزء الصغير الذي يطفو، ويخفي تحته أغراضا سياسية ومذهبية لا تظهر للمتابعين.