بغداد ترفض 'العقود المنفردة' في قطاع للنفط لانتهاكها الدستور
أعلنت وزارة النفط العراقية، يوم الجمعة، موقفاً حاسماً تجاه تعاقد شركات أميركية مع حكومة إقليم كردستان دون موافقة الحكومة الاتحادية في بغداد، معتبرة أن هذا النوع من التعامل "مخالف للدستور العراقي والقوانين النافذة" مشددة في بيان شديد اللهجة على حرصها على التعاون مع الشركات الأميركية ضمن الأطر الدستورية، مؤكدة استمرار التعاقدات معها في مجالات الحفر والخدمات النفطية، لكنها رفضت بشدة أي ترتيبات تعقدها تلك الشركات خارج القنوات الاتحادية حيث سيكون لهذا الصراع تداعيات داخلية خاصة فيما يتعلق بالصلاحيات الدبلوماسية.
وهذا الموقف يمثل أحدث حلقة في سلسلة من الخلافات القانونية والسياسية بين بغداد وأربيل، تتعلق بإدارة وتصدير النفط والعائدات المتحصلة منه، والتي طالما كانت مصدراً للتوتر بين الجانبين. وفيما ترى بغداد أن الدستور يمنحها الصلاحية الحصرية لإدارة الثروات الطبيعية، تصر حكومة الإقليم على حقها في توقيع عقود مستقلة لضمان تطور قطاعها النفطي، وجذب الاستثمارات الأجنبية.
والجدل تفجر مجدداً بعد إعلان رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني، من واشنطن، عن توقيع عقود نفطية بقيمة 110 مليارات دولار مع شركتي "إتش.كيه.إن إنرجي" و"وسترن زاغروس" الأميركيتين لتطوير حقول غازية في محافظة السليمانية، وهو ما اعتبرته بغداد خرقاً صارخاً لقرار المحكمة الاتحادية الصادر عام 2022، الذي أقر بعدم دستورية قانون النفط والغاز الكردي.
هذا الإعلان، الذي جاء في ظل تعثر مفاوضات استئناف تصدير النفط عبر خط الأنابيب العراقي التركي، ألقى بظلاله على العلاقات بين بغداد وواشنطن، وأعاد تسليط الضوء على هشاشة التفاهمات بين المركز والإقليم في ظل غياب تشريع موحد ينظم العلاقة في قطاع الطاقة.
التحذير العراقي الرسمي من التعامل المباشر مع الإقليم لا يمكن فصله عن السياق السياسي المعقد الذي تعيشه البلاد. فالصراع على الصلاحيات الدستورية لا يتعلق فقط بمسألة النفط، بل يمتد ليعكس صراعاً أعمق على النفوذ والتمثيل السياسي والاقتصادي داخل الدولة العراقية. وهو ما يطرح تساؤلات ملحة عن شكل العلاقة المستقبلية بين أربيل وبغداد، ومدى قدرة الطرفين على إيجاد أرضية دستورية واقتصادية مشتركة تحكم التعاملات في هذا الملف الحساس.
ويبدو أن إقليم كردستان يجد نفسه في موقع صعب نتيجة تعطل صادرات النفط، حيث تراجعت الإيرادات بشدة، ما أثر على القدرة على دفع رواتب الموظفين وخلق أزمة مالية خانقة. بالمقابل، ترى بغداد أن الحل يكمن في توطين الأجور وتقديم القوائم المالية بشفافية تامة، ما تعتبره حكومة الإقليم شروطاً غامضة وتمس جوهر صلاحياتها.
التحركات الأميركية الاقتصادية في كردستان دون تنسيق مع بغداد تثير أيضاً قلقاً عراقياً من احتمالات تدويل الصراع، أو استغلاله كورقة ضغط سياسية في علاقات واشنطن ببغداد أو أربيل. فبينما تبدي واشنطن رغبة في دعم استقرار العراق وتعزيز استثماراتها فيه، فإن مثل هذه التعاقدات تعزز شعوراً لدى الحكومة العراقية بأن هناك من يسعى لتجاوز سلطتها الاتحادية، وهو ما قد يؤثر مستقبلاً على نمط الشراكة الاستراتيجية بين بغداد وواشنطن.
ويأتي ذلك في وقت تحاول فيه الأطراف العراقية جاهدة تخفيف حدة الاستقطاب السياسي وإعادة بناء الثقة بين المكونات السياسية، ما يجعل أي تصعيد قانوني أو سياسي في ملف الطاقة محفوفاً بالمخاطر.
يرى مراقبون أن الخلاف حول شرعية التعاقدات النفطية لا يمكن حسمه دون العودة إلى طاولة الحوار الوطني لتفسير الدستور بشكل واضح ونهائي فيما يخص إدارة الثروات، وتفعيل تشريع قانون النفط والغاز المؤجل منذ سنوات. ويُعد غياب هذا التشريع حجر عثرة أمام أي اتفاق طويل الأمد بين الطرفين.
كما يُخشى أن يؤدي تمسك كل طرف بموقفه إلى مزيد من الجمود، خاصة مع اقتراب استحقاقات سياسية واقتصادية في البلاد، ما قد يدفع بعض القوى إلى استثمار الملف لمآرب حزبية أو انتخابية، في ظل تفاقم الضغوط الشعبية نتيجة الأزمة الاقتصادية.
البيان الصادر عن وزارة النفط العراقية لا يمكن اعتباره مجرد موقف إداري تجاه مخالفة قانونية، بل هو في جوهره إعلان سياسي يتجاوز العلاقة بين بغداد وأربيل ليصل إلى واشنطن وشركاتها العاملة في العراق. وبينما تسعى الحكومة الاتحادية لتكريس سلطة الدولة على جميع الأراضي العراقية، بما في ذلك إدارة الثروات، تصر حكومة الإقليم على تثبيت استقلالية القرار الاقتصادي كرافعة لمشروعها السياسي.
ويظل الحل مرهوناً بقدرة الطرفين على التوصل إلى صيغة شراكة واضحة، تؤطر الصلاحيات وتوزع الثروات بعدالة، وتحمي سيادة الدولة وتحقق تطلعات الشعب العراقي شمالاً وجنوباً.