إنهاء برنامج الأسلحة النووية الإيراني ليس كافيا
رغم أن إنهاء البرنامج النووي الإيراني يُعد هدفا مهمًا للمجتمع الدولي، إلا أن تركيز المفاوضات الحصرية على هذا الجانب لا يعكس طبيعة التهديد الحقيقي الذي تمثله طهران.
ويقول ماثيو ليفيت، وهو زميل بارز في زمالة فرومر-ويكسلر ومدير برنامج راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن، ضمن تقرير نشره المعهد إن إيران اليوم ليست مجرد دولة تسعى لامتلاك سلاح نووي، بل هي لاعب إقليمي يستخدم شبكة واسعة من الوكلاء والجماعات المسلحة لفرض نفوذه في الشرق الأوسط، ما يجعل رعاية الإرهاب أحد أعمدة سياستها الخارجية، ومصدرا دائما لزعزعة الاستقرار.
وتُظهر التجربة أن أي اتفاق يقتصر على ملف التخصيب النووي دون أن يتعامل مع السلوك الإقليمي الإيراني، سيبقى اتفاقًا ناقصًا، بل وقد يساهم، من حيث لا يدري، في تمويل الأنشطة التي يسعى إلى كبحها.
وهذا ما حدث بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015، حين استغلت طهران العوائد المالية المفرج عنها لتعزيز دعمها لجماعات كحزب الله وحماس والحوثيين، بدلًا من توجيهها نحو تحسين الاقتصاد الداخلي أو الانخراط البنّاء في محيطها.
وتؤكد التقارير الاستخباراتية الغربية، بما فيها تلك الصادرة بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، أن إيران كانت على علم بتفاصيل الهجوم، ووفرت له التمويل والتخطيط المسبق. ولم يكن ذلك مفاجئا، بل هو تأكيد على دور طهران المستمر في توجيه الجماعات المسلحة كأدوات إستراتيجية، سواء في لبنان أو اليمن أو غزة.
المشكلة لا تكمن في تخصيب اليورانيوم فقط، بل في الأنشطة التي تقوم بها إيران على الأرض عبر وكلائها وأدوات هيمنتها الإقليمية
ومع تصاعد التوترات في المنطقة، بات واضحًا أن البرنامج النووي ليس سوى جزء من المشكلة. فحتى في حال جمدت إيران تخصيب اليورانيوم، فإنها لا تزال تمتلك من الوسائل العسكرية واللوجستية ما يكفي لتهديد حلفاء الولايات المتحدة واستقرار المنطقة.
وتدور حملة الحوثيين المستمرة ضد الملاحة في البحر الأحمر، وقدرة حزب الله على فتح جبهة موازية في الشمال، وتحرك حماس في الجنوب، ضمن إستراتيجية إيرانية واحدة: الضغط متعدد الاتجاهات.
وأكثر من ذلك، فإن استمرار العقوبات الأميركية والدولية على إيران، حتى في فترات الهدوء النووي، يُظهر أن المجتمع الدولي لا يرى في السلاح النووي الخطر الوحيد. فالانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، واستخدام الإرهاب كأداة سياسة خارجية، وتجارب الصواريخ الباليستية العابرة للحدود، تمثل جميعها أسبابًا مستقلة لإبقاء إيران تحت طائلة العقوبات.
وليس الرهان على اتفاق نووي جديد، دون تضمينه هذه الملفات الشائكة، فقط خيارًا غير كافٍ، بل قد يكون خطوة إلى الوراء؛ إذ إنه يمنح طهران متنفسًا اقتصاديًا يمكنها استخدامه لتقوية نفوذها العسكري غير التقليدي.
وقد أثبتت السنوات الماضية أن البنوك العالمية وشركات الاستثمار لا تثق بمثل هذه الاتفاقات الجزئية، إذ تبقى المخاطر القانونية والسياسية قائمة ما دامت إيران ترفض التخلي عن أدوات زعزعة الاستقرار.
ولذلك فإن أي مسار تفاوضي جاد مع طهران يجب أن يتجاوز الشأن النووي، ويُخضع سلوك إيران الإقليمي، وتمويلها للميليشيات، وانتهاكاتها الحقوقية، لطاولة المحاسبة. فاختزال المشكلة الإيرانية في تخصيب اليورانيوم يُغفل حقيقة أن التهديد لا يكمن فقط في ما قد تنتجه إيران في منشآتها النووية، بل في ما تفعله على الأرض عبر وكلائها، وبما تمتلكه فعلاً من أدوات هيمنة إقليمية.
وتتبنى إيران إستراتيجية إقليمية متكاملة تهدف إلى تعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط من خلال تحالفات مع جماعات مسلحة وغير حكومية.
أي مسار تفاوضي جاد مع طهران يجب أن يتجاوز الشأن النووي، ويُخضع سلوك إيران الإقليمي، وتمويلها للميليشيات، وانتهاكاتها الحقوقية، لطاولة المحاسبة
وأحد أهم أبعاد هذه الاستراتيجية دعم طهران للميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، التي تُعتبر امتدادًا لقوتها العسكرية والسياسية في المنطقة. هذا النفوذ لا يقتصر على الشيعة، بل يشمل أيضًا دعم إيران لجماعات سنية متطرفة في بعض الأحيان، بهدف تحقيق أهداف إستراتيجية طويلة المدى.
كما أن إيران تستخدم القوة العسكرية والتهديدات بشكل مستمر لتهديد الملاحة في مياه الخليج العربي والمحيط الهندي. والحرس الثوري الإيراني، الذي يُعتبر جزءًا أساسيًا من القوة العسكرية الإيرانية، يمتلك قوة بحرية قادرة على تعطيل حركة التجارة الدولية في هذه المناطق الحيوية، وهي خطوة إستراتيجية لإيران تهدف إلى تعزيز قدرتها على الضغط على الدول الغربية وحلفائها في المنطقة.
ومن جانب آخر تعيش إيران في مواجهة مستمرة مع القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سياساتها الخارجية والممارسات المتناقضة في المجالين النووي والإقليمي.
وعلى الرغم من توقيع الاتفاق النووي عام 2015، لم تُبدِ إيران أي استعداد حقيقي لوقف دعم الجماعات المسلحة في المنطقة أو لتحسين وضعها الحقوقي، ما يؤدي إلى زيادة العزلة الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية. وقد ازدادت هذه الضغوط مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018، وهو ما أعاد تصعيد التوترات في منطقة الشرق الأوسط.
وتسعى إيران أيضًا إلى استعادة دورها كقوة إقليمية مهيمنة من خلال تعزيز علاقتها مع قوى كبرى مثل روسيا والصين، اللتين تقدمان الدعم العسكري والاقتصادي لطهران. هذا التعاون يشمل التبادل التكنولوجي العسكري، بما في ذلك الأنظمة الصاروخية والطائرات دون طيار، ما يزيد من قدرتها على تهديد الاستقرار في الشرق الأوسط.
وتظل قضية حقوق الإنسان في إيران محط انتقاد مستمر، حيث يواجه المواطنون هناك تقييدًا لحقوقهم الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير والتجمع.
وتستمر الحكومة الإيرانية في قمع المعارضين السياسيين والناشطين الحقوقيين، بينما يُنظر إلى النظام القضائي الإيراني على أنه أداة للسيطرة السياسية، وهو ما يعكس التناقض بين ما تُظهره إيران من رغبة في الانفتاح الاقتصادي على الغرب وبين ممارساتها الداخلية التي تتناقض مع هذه الصورة.
وتشير هذه الخلفيات إلى أن التهديد الإيراني في المنطقة ليس مجرد برنامج نووي، بل يشمل أيضًا سعيها الدؤوب لفرض هيمنتها العسكرية والسياسية عبر دعم الجماعات المسلحة، وزعزعة استقرار دول المنطقة، وهو ما يجعل أي اتفاق دولي معها يتطلب معالجات أكثر شمولية لأبعاد هذا التهديد.