تركيا تسعى إلى تعزيز نفوذها في أفريقيا بقوة ناعمة وذراع عسكرية
تسارع تركيا الخطى لترسيخ حضورها في القارة الأفريقية، مستفيدة من حالة الانكفاء التي تعيشها القوى الغربية التقليدية، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة.
ومن خلال إستراتيجية تجمع بين الدبلوماسية والتعاون العسكري والانخراط في الوساطة لحل النزاعات، تحاول أنقرة رسم ملامح دور جديد لها في أفريقيا يعزز من مكانتها الدولية ويخدم طموحاتها الجيوسياسية الأوسع.
ويأتي هذا الانفتاح الأفريقي في سياق انسحاب تدريجي للدور الفرنسي من دول الساحل، وتراجع الحضور الأميركي في ملفات القارة،
مما خلق فراغًا تحاول قوى متعددة ملأه، من بينها روسيا والصين، لكن تركيا تسعى إلى تمييز نفسها عبر أدوات مختلفة.
ويقول البروفسور إيغوسا أوساغاي، المدير العام للمعهد النيجيري للشؤون الدولية إن “الدول الأفريقية تبحث عن خيارات، وتركيا أحدها.”
وتواجه العديد من الدول الأفريقية تحديات أمنية بوجود مجموعات قادرة على التسبب بالفوضى والدمار، مثل حركة الشباب في الصومال وبوكو حرام في نيجيريا وجيش الرب الذي نشأ في أوغندا.
ويقول أوساغاي “إذا كان من الممكن لتركيا أن تقدّم مساعدة لهذه المناطق، فلم لا؟”
من خلال إستراتيجية تجمع بين الدبلوماسية والتعاون العسكري والانخراط في الوساطة ترسم أنقرة ملامح دور جديد لها في أفريقيا
ويضيف “الأمر الجيد أنّ العديد من الدول الأفريقية لديها تعاون عسكري مع تركيا. ويمكن لذلك أن يكون حجر الأساس للنفوذ التركي.”
ووقعت تركيا اتفاقات دفاعية مع عدد من الدول في مختلف أنحاء القارة، بما في ذلك الصومال وليبيا وكينيا ورواندا وإثيوبيا ونيجيريا وغانا.
وفتحت هذه الاتفاقات المجال أمام عقود لصناعة الدفاع التركية، وخصوصا الطائرات دون طيار التي تشتهر بفعاليتها وبانخفاض تكلفتها.
وقال الدبلوماسي التركي ألب آي إنّ أنقرة تعرض الحوار، مشيرا إلى نجاحها في جعل الصومال وإثيوبيا تتوصّلان إلى إنهاء نزاع مرير أثار مخاوف من اندلاع صراع في منطقة القرن الأفريقي.
وأضاف آي الذي يعمل كممثل خاص في المفاوضات بين الصومال ومنطقة صوماليلاند (أرض الصومال) الانفصالية، “نحاول ضمان أن تتمكن أفريقيا من إيجاد حلولها الخاصة للمشاكل الأفريقية.”
ولا تطرح أنقرة نفسها كفاعل أمني فقط، بل كـ”شريك متعدد الأوجه”. ومن خلال اتفاقيات دفاعية مع دول مثل الصومال، نيجيريا، كينيا، وليبيا، فتحت تركيا بابًا لصادراتها الدفاعية، خاصة الطائرات بدون طيار التي أثبتت فعاليتها في عدة مسارح نزاع.
وفي الوقت نفسه، تعمل أنقرة على توظيف نفوذها لبناء دور سياسي ودبلوماسي، كما حدث مؤخرًا في الوساطة بين الصومال وإثيوبيا بشأن اتفاق صوماليلاند، وهي خطوة لاقت ترحيبًا دوليًا وأفريقيًّا.
ويؤسس هذا الدور لصورة تركيا كوسيط يسعى لحلول “أفريقية للمشاكل الأفريقية”، على حد تعبير ألب آي، ممثل أنقرة في المفاوضات.
فعالية الحضور التركي في أفريقيا تبقى مرتبطة بجاذبية العروض التي تقدمها، ومدى قدرتها على تحقيق توازن بين مصالحها ومصالح الدول الأفريقية
ويعتبر غياب التاريخ الاستعماري لها في القارة واحدة من أهم أوراق القوة التركية، مما يمنحها أفضيلة رمزية في التعاطي مع دول تبحث عن شركاء بعيدين عن الإرث الثقيل للماضي الاستعماري.
وخلال المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي عقد أنطاليا بين 11 و13 من أبريل الجاري، الذي بات منصة تعزز بها تركيا حضورها الدولي، حضرت شخصيات أفريقية رفيعة، كان من أبرزها الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود.
ولم يكن المنتدى فقط مناسبة لعرض الخطاب التركي الجديد، بل أيضًا فرصة لفتح قنوات مباشرة مع قادة القارة، في ملفات تتراوح بين التعاون الاقتصادي والتدريب الأمني والدعم السياسي.
ويعبّر حضور عدد كبير من المسؤولين الأفارقة عن تزايد القبول الإقليمي بهذا الدور التركي، الذي يعرض بديلاً متعدد الأبعاد لا يتقاطع بالضرورة مع الإرث الاستعماري أو الأجندات الضاغطة التي تُقابل غالبًا بالرفض الشعبي.
وفي هذا السياق، صرح وزير خارجية ساحل العاج أن الشراكة مع تركيا لا تتعارض مع العلاقات القديمة مع فرنسا، بل “تفتح آفاقًا جديدة.”
ولا تقتصر علاقة أنقرة بأفريقيا على الجانب العسكري والدبلوماسي، بل تمتد إلى مجالات التنمية والتعليم والبنية التحتية. فالصومال، على سبيل المثال، بات نموذجًا لتكامل النفوذ التركي، من الأمن إلى إعادة بناء المنشآت الحيوية. وهو ما أكده دبلوماسي صومالي كبير لوكالة فرانس برس بقوله: “تركيا ليست فقط منخرطة في الأمن، بل في مشاريع تنموية أيضًا.”
ويرتبط نجاح تركيا في أفريقيا أيضا بدورها المتنامي في أزمات عالمية أخرى، مثل الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، أو تواصلها مع أطراف النزاع في سوريا، وهو ما يمنحها رصيدًا سياسيًا إضافيا يعزز مصداقيتها في القارة.
وما يعزز جاذبية هذا الدور هو تمكن أنقرة من تقديم نفسها كفاعل ليس فقط عسكريا، بل تنمويا وإنسانيا، مستفيدة من مشاريعها في البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية، التي تتماشى مع احتياجات ملحّة لدى شعوب القارة.
وقد أكد دبلوماسيون أفارقة أن تركيا لا تفرض مشروعاتها، بل تعرضها من موقع الشريك المتكافئ، ما يخلق هوامش تفاهم واسعة مقارنة ببعض القوى الغربية التي ينظر إلى سياساتها في أفريقيا بعين الريبة.
وفي ظل سعي دول أفريقية إلى تنويع شراكاتها الخارجية، وتخفيف الارتهان إلى محور دولي واحد، تتقدم تركيا بوصفها فاعلًا مرنا، قادرا على المواءمة بين الدعم العسكري والتعاون التنموي من جهة، وبين الانخراط السياسي والوساطة من جهة أخرى. ويبدو أن أنقرة تراهن على هذا المزيج لإرساء نفوذ مستقر في المدى الطويل، مدركة أن المشهد الأفريقي، رغم تشظيه، يفتح آفاقا لفاعلين جدد مستعدين للاستثمار الذكي والمستمر.
وتطرح تركيا نفسها اليوم في أفريقيا كلاعب يعيد تعريف معادلات النفوذ بعيدًا عن النماذج الكلاسيكية للقوة. فبدلًا من الاستعمار الجديد أو التدخل المباشر، تقدّم أنقرة خطابًا عمليًا يتقاطع مع مصالح الدول الأفريقية المتعطشة لحلول لا تفرض أثمانًا سياسية باهظة.
ويرى محللون أن فعالية الحضور التركي في أفريقيا تبقى مرتبطة بجاذبية العروض التي تقدمها، ومدى قدرتها على تحقيق توازن بين مصالحها ومصالح الدول الأفريقية. لكن المؤشرات الحالية تفيد بأن تركيا استطاعت، على الأقل، تثبيت موطئ قدم جاد في القارة، عبر مزيج من الدبلوماسية والبراغماتية السياسية.
ويشير المحللون إلى أنه في ظل عالم يشهد إعادة توزيع النفوذ، يبدو أن أنقرة تراهن على أن أفريقيا قد تكون المسرح الأهم لمشروعها الجيوسياسي المقبل.