ما يخسره ترامب من عقول مهاجرة تبحث عن وظائف تستقبله أوروبا
لدى ديفيد دي ديجان شغف عميق بدراسة التونة، وحصل خلال العام الماضي على ما اعتبره وظيفة أحلامه في الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في ميامي لمواصلة أبحاثه. وكان قد استقر في منصبه بحلول يناير، وسجّل تقييم أداء إيجابي، وأكد أنه استمتع بالتعاون مع زملائه.
لكن طُلب منه فجأة عبر البريد الإلكتروني خلال فبراير مغادرة مقر العمل خلال 90 دقيقة.
وكان واحدا من مئات الموظفين الذين شملتهم موجة من التسريحات التي استهدفت العاملين الذين ما زالوا في فترة الاختبار، بالتزامن مع بدء إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تخفيض تمويل الجامعات ومؤسسات البحث.
ويبحث دي ديجان الآن عن فرص عمل في أوروبا.
وقال العالم، الذي يحلل مجموعات الأسماك لضمان صيد التونة بشكل مستدام “أريد العمل في أي مكان يسمح لي بإجراء البحث فيه.”
وأضاف دي ديجان، المولود في إسبانيا والذي عمل في الغالب في الولايات المتحدة وأستراليا، “أنتظر بفارغ الصبر بعض المبادرات القادمة من الاتحاد الأوروبي… وهي التي ستزيد من فرص عودة العلماء مثلي.”
تخفيضات ترامب في تمويل الأبحاث تعد جزءا من صراع أيديولوجي، حيث اتهم الجامعات بالتمييز لمبادراتها المتعلقة بالتنوع
وتجادل إدارة ترامب بأن تخفيضات الميزانية بمليارات الدولارات ضرورية لخفض العجز الفيدرالي والسيطرة على الدين الوطني.
وتُعدّ تخفيضاته في تمويل الأبحاث جزءا من صراع أيديولوجي أوسع نطاقا، حيث اتهم ترامب الجامعات بالتمييز بسبب مبادراتها المتعلقة بالتنوع، وانتقد ما يراه إخفاقات بعض المؤسسات في حماية الطلاب اليهود من معاداة السامية.
وبثّ انعدام الأمن الوظيفي الذي يواجهه الأكاديميون في مؤسسات مثل ييل وكولومبيا وجونز هوبكنز أملا بين القادة السياسيين في أوروبا في استفادتهم من هجرة المواهب.
وحثّت رسالة اطلعت عليها رويترز، ووقعتها في مارس 13 دولة أوروبية، منها فرنسا وألمانيا وإسبانيا، المفوضية الأوروبية على التحرك بسرعة لاستقطاب هذه المواهب الأكاديمية.
وأبلغ مجلس البحوث الأوروبي، وهو هيئة تابعة للاتحاد الأوروبي تُموّل البحث العلمي، رويترز بأنه سيضاعف دعمه للانتقال إلى مليوني يورو (2.16 مليون دولار) لكل باحث. ويُساعد هذا التمويل في تغطية التكاليف المتعلقة بالانتقال إلى مؤسسة أوروبية، بما في ذلك إنشاء مختبر.
وفي إطار المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة في ألمانيا، وضع المحافظون والديمقراطيون الاجتماعيون خططا لجذب ما يصل إلى ألف باحث. وتؤكد على هذا وثائق المفاوضات التي يرجع تاريخها إلى شهر مارس والتي اطلعت عليها رويترز، وهي تشير إلى الاضطرابات في الأوساط الأكاديمية الأميركية.
وتحدثت رويترز مع 13 جامعة ومعهدا بحثيا أوروبيا أكدت اهتماما متزايدا من جانب الموظفين الأميركيين بالانتقال إلى أوروبا، إضافة إلى ستة أكاديميين أميركيين يفكرون في اتخاذ هذه الخطوة.
القادة الأوروبيون يرون أن سياسات ترامب منحتهم فرصة فريدة لاستقطاب الكفاءات الأميركية
وقال غراي ماكدويل من شركة كابجيميني إنفنت الأميركية للاستشارات الرقمية إن “عدم اليقين التنظيمي، وتخفيضات التمويل، وقيود الهجرة، وتراجع التعاون الدولي تعدّ عوامل تُهيئ بيئة مثالية لهجرة الأدمغة.”
وأوضح مسؤول في البيت الأبيض أن الإدارة تُراجع المنح البحثية وتمنح الأولوية لتمويل المجالات التي يُحتمل أن تُحقق عوائد لدافعي الضرائب “أو تُحقق تقدما علميا ذا معنى”. وأضاف المسؤول أن تخفيضات الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي صُممت لتمكين الوكالة من مواصلة أداء واجباتها الأساسية.
يتطلب جذب المواهب الأميركية إلى أوروبا أكثر من مجرد النوايا الإيجابية، إنه يتطلب استثمارا ماليا، بعد أن تخلفت أوروبا عن الولايات المتحدة لعقود في تمويل مؤسسات التعليم العالي.
ووفقا لأحدث أرقام الوكالة الأوروبية للإحصاء “يوروستات”، بلغ إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك مساهمات الشركات والحكومات والجامعات والمنظمات الخاصة غير الربحية، 381 مليار يورو (411 مليار دولار) خلال 2023.
وخلال السنة نفسها، قُدِّر الإنفاق على البحث والتطوير التجريبي في الولايات المتحدة بنحو 940 مليار دولار، وفقا للمركز الوطني لإحصاءات العلوم والهندسة (وكالة اتحادية تُعنى بمراقبة أداء العلوم والهندسة في الولايات المتحدة).
إضافة إلى ذلك، بينما تتمتع جامعة هارفارد (أغنى جامعة في الولايات المتحدة) بتمويلات قدرها 53.2 مليار دولار، تتوفّر لجامعة أكسفورد (أغنى جامعة في المملكة المتحدة) تمويلات بقيمة 8.3 مليار جنيه إسترليني فقط (10.74 مليار دولار).
مجلس البحوث الأوروبي سيضاعف دعمه للانتقال إلى (2.16 مليون دولار) لكل باحث
وأشار أحد الخبراء الأكاديميين وخبراء التعليم العالي إلى أن الأمر سيستغرق من أوروبا وقتا طويلا لتعويض هذا النقص المالي، حتى مع بذل جهد كبير ومنسق.
وأعرب مايكل أوبنهايمر، أستاذ علوم الأرض والشؤون الدولية بجامعة برينستون، لرويترز عن شكوكه بشأن إمكانية تطوير قدرات علمية تضاهي القدرات الأميركية الحالية في المستقبل القريب.
وصرّح مسؤول في البيت الأبيض بأنه على الرغم من التخفيضات المقترحة في الميزانية، ستحافظ الولايات المتحدة على مكانتها كأكبر ممول عالمي للأبحاث العالمية. وأكد أيضا أن الدول الأوروبية لن تعوّض، ولن تستطيع، سدّ أي فجوات تمويلية.
واتجه العديد من العلماء إلى وسائل التواصل الاجتماعي لحثّ نظرائهم على البقاء في الولايات المتحدة، ويعترف آخرون بوجود عقبات مختلفة قد تثنيهم عن الانتقال.
وقال مايكل أولسن، الذي يقود برنامجا للوقاية من العدوى في واشنطن، إن من بين العقبات المحتملة اختلافات اللغة وقوانين التوظيف وممارساته غير المألوفة.
ويشكّل الراتب عاملا آخر.
وأشار هولدن كايغروفز، الأستاذ المساعد في التخدير بجامعة كولومبيا المستفيدة من تمويل معاهد الصحة الوطنية الأميركية، إلى أن أجور أطباء التخدير في أوروبا تبدو أقل بكثير مقارنة بالمعايير التي تتبناها الولايات المتحدة. كما شدد على التحديات الكبيرة المرتبطة بالانتقال.
ويرى القادة الأوروبيون أن سياسات ترامب منحتهم فرصة فريدة لاستقطاب الكفاءات الأميركية.
وخلال الشهر الماضي، صرّح فريدريش ميرز، المتوقع أن يصبح المستشار المقبل، بأن الحكومة الأميركية تعتمد حاليا أساليب القوة الغاشمة ضد جامعاتها المحلية، مما دفع الباحثين الأميركيين إلى التواصل مع المؤسسات الأوروبية. ووصف هذا التطور بأنه فرصة هائلة لأوروبا.
وفي هذه الأثناء، يُقيّم جون توثيل، أستاذ علم الأعصاب الأميركي في جامعة واشنطن في سياتل، خياراته. وقد قُيّدت قدرته على التقدم بطلبات تمويلات جديدة للتخطيط لما بعد سنة 2027 بسبب تجميد طلبات المنح حاليا.
ويتلقى مختبره، الذي يضم 17 شخصا، حوالي 75 في المئة من تمويله من معاهد الصحة الوطنية التي تواجه تخفيضات كبيرة في ظل إدارة ترامب.
وأشار توثيل، وهو من ولاية مين، إلى أن أوروبا تُمثّل البديل الأنسب نظرا لمكانتها كمركز رئيسي آخر للأبحاث الطبية الحيوية في العالم. وأضاف أنه يُفكّر حاليا في الانتقال إليها مع زوجته وابنته.
وقالت جامعة إيكس مرسيليا في فرنسا لرويترز إن 120 باحثا من مؤسسات أميركية مثل ناسا وجامعة ستانفورد أعربوا عن اهتمامهم ببرنامجها الجديد “مساحة آمنة للعلوم” الذي تبلغ تكلفته 15 مليون يورو، والذي تم إطلاقه في السابع من مارس. وتستهدف المبادرة الباحثين المقيمين في الولايات المتحدة في مجالات مثل الصحة، وطب مجتمع الميم، وعلم الأوبئة، وتغير المناخ. وأقرّ إريك بيرتون، رئيس الجامعة، بأن الباحثين كانوا خائفين، مما أشعرهم بواجب الاستجابة للوضع. وذكر أن عشر جامعات أوروبية تواصلت معه بالفعل بشأن إنشاء برامج مماثلة.
وتعتزم الحكومة في هولندا إنشاء صندوق لجذب علماء دوليين بارزين ودعم أهداف “الاستقلال الإستراتيجي” للاتحاد الأوروبي، وفقا لتصريح وزير التعليم إيبوبروينز في رسالة إلى البرلمان بتاريخ العشرين من مارس.
ويعكس هذا تحولا في السياسة، حيث كانت الحكومة الهولندية قد خططت سابقا لخفض تمويل البحث والتعليم العالي بمقدار نصف مليار يورو.
وصرح روبرت جان سميتس، رئيس جامعة آيندهوفن للتكنولوجيا، لوكالة رويترز أن استقطاب علماء أميركيين إلى أوروبا يمكن أن يعزز الاستقلال التكنولوجي القاري، لاسيما في مجالات مثل أشباه الموصلات.
وأطلقت الجامعتان الشقيقتان في بلجيكا؛ جامعة فريجي في بروكسل وجامعة بروكسل الحرة، برنامجا يدعو الباحثين المقيمين في الولايات المتحدة إلى التقدم لشغل 36 وظيفة في مجال دراسات ما بعد الدكتوراه. وفي الوقت نفسه، تنوي مؤسسة ألكسندر فون هومبولت، التي تسهل تبادل العلماء البارزين مع ألمانيا، زيادة برامجها بنحو 20 في المئة.
ويُنشئ معهد غرانثام في كلية لندن الإمبراطورية المتخصص في أبحاث المناخ زمالتين بحثيتين جديدتين على الأقل لعلماء المناخ الأميركيين في بداية مسيرتهم المهنية. وصرح مدير الأبحاث في المعهد جوري روجيلج بأن المؤسسة قد شهدت بالفعل زيادة ملحوظة في الطلبات.
وأفادت سارة ويزبرغ، عالمة أحياء مصايد الأسماك، بفصلها من العمل خلال فترة تخفيض عدد الموظفين التجريبية في فبراير. وكانت تعمل سابقا في الهيئة الوطنية لمصايد الأسماك البحرية في وودز هول بماساتشوستس.
وكشفت أنها تلقت عرض عمل في أوروبا، مشيرة إلى أنها لم تفكر قط في مواصلة مسيرتها المهنية خارج الولايات المتحدة، لكنها الآن تشعر بأنها مضطرة إلى ذلك نظرا لظروفها.