الحلول المبتكرة تحفز نهج المغرب في الزراعة المستدامة
قطع المغرب شوطا كبيرا في تطوير ممارسات زراعية ذكية مناخيا، في إطار سعيه لتحقيق الأمن الغذائي، وفي الوقت ذاته ترجمة هدفه بالوصول إلى مسح بصمته الكربونية بحلول عام 2050.
والزراعة المقاومة للمناخ، هي نهجٌ متكامل لإدارة الأراضي وتهيئة النظم للاستجابة بفعالية لتغير المناخ، ما يضمن تحقيق الأهداف الثلاثة المتمثلة في زيادة الإنتاجية والعائد الاقتصادي بشكل مستدام والتأقلم مع الجفاف والحد من الانبعاثات الدفيئة.
ويُعد الشعير المستنبت من التقنيات المبتكرة التي من شأنها التخفيف من آثار ندرة المياه وضمان تغذية القطيع بكلفة منخفضة أحد الحلول التي بدأت تظهر في المغرب.
وتشكل هذه التجربة التي يحتضنها إقليم جرسيف في جهة الشرق ويقع بين مدينتي فاس ووجدة رهانا مستقبليا بالنسبة إلى المسؤولين وأوساط المزارعين وفرصة واعدة لتطوير إنتاجية المحاصيل وتربية المواشي.
تجربة تعاونية إمزداغ نمغران بجماعة تادرت التي تضم 70 مزارعا تعتبر نموذجا ناجحا لاعتماد هذه التقنية المقاومة للجفاف
وترتكز عملية استنبات الشعير كتقنية حديثة، على زراعة حبوب الشعير وإنباتها في ظروف محكمة داخل وحدات مغلقة، دون الحاجة إلى التربة، ما يقلص من استهلاك الموارد الطبيعية، ويضمن إنتاجا منتظما من الأعلاف الخضراء ذات الجودة العالية.
وهكذا تبرز هذه التقنية كخيار فعال وبديل محتمل لمواجهة التغيرات المناخية القاسية، وتعزيز جهود مواكبة المزارعين، ودعم صمود القطعان.
وعلاوة على ذلك تسهم في تكريس الاعتماد على التقنيات الزراعية الحديثة، خاصة في ظل التحديات المناخية التي يفرضها توالي سنوات الجفاف وانعكاس ذلك على القطاع بصفة عامة.
وإلى جانب مكاسبها الاقتصادية والبيئية، تشكل وحدات إنتاج الشعير المستنبت أداة فعالة في تعزيز الأمن الغذائي للمواشي، خاصة في الفترات الحرجة من السنة، التي تعرف شحا في الأعلاف وارتفاعا في أسعارها.
ويقوم العمل داخل هذه الوحدات على تقنيات دقيقة، حيث تشكل مراقبة درجة الحرارة والرطوبة بصفة اعتيادية، والحرص على نظافة المعدات، عوامل حاسمة وضرورية لإنبات ناجح وسريع يضمن جودة العلف المستخرج.
وتشكل تجربة تعاونية إمزداغ نمغران بجماعة تادرت، التابعة لإقليم جرسيف، نموذجا ناجحا لاعتماد هذه التقنية، عبر إشرافها على وحدة الشعير المستنبت الصفصفات، التي يستفيد من خدماتها أكثر من 70 مزارعا.
وتسهم هذه التعاونية الفلاحية، التي تأسست سنة 2017، وتضم 33 متعاونا منهم 15 امرأة، من خلال هذا المشروع، في تحقيق التنمية المستدامة بالمنطقة، وذلك عبر دعم المزارعين، وتعزيز الإنتاج المحلي، وكذلك تحسين ظروف تربية المواشي وتقليص تكاليفها.
وأكد رئيس التعاونية عبدالقادر سعود أن المشروع شهد إقبالا واسعا، إذ تستفيد منه مجموعة من المزارعين، مشيرا إلى مساهمة الشعير المستنبت في تحسين صحة وخصوبة الأبقار والماشية، وكذلك تقليص نسبة إصابتها بالأمراض.
550
ألف دولار كلفة المشروع الذي تساهم فيه المديرية الإقليمية للفلاحة بجرسيف وبرنامج إحياء
ونسبت وكالة الأنباء المغربية الرسمية إلى سعود قوله إن “هذه التقنية المبتكرة، مكنت من خفض الكلفة الإجمالية للعلف، مقارنة بالأساليب التقليدية.”
وأوضح أن الوحدة تنتج، يوميا، أكثر من طن من الشعير المستنبت، خلال فترات الذروة، حيث يزداد طلب المزارعين على هذا النوع من الأعلاف، ما يعكس فاعلية هذه التقنية في تغطية حاجيات القطيع بشكل مستدام.
وأشار إلى أن الإنتاج يتم اعتمادا على تقنية الزراعة دون تربة، في بيئة مغلقة تتحكم في الرطوبة، والحرارة، والإضاءة.
وشرح سعود أن العملية تنطلق باختيار حبوب شعير ذات جودة عالية، حيث تغسل وتطهر لتفادي التعفن ونمو الفطريات، ثم تنقع في الماء لمدة تتراوح بين 6 و12 ساعة لتنشيط عملية الإنبات، قبل أن توزع في صوان خاصة ضمن ظروف مثلى للإنبات والنمو.
وشدد على أن هذه العملية تحتاج إلى ري منتظم للحبوب بمياه نقية، دون الحاجة إلى الأسمدة أو التربة، ما يسمح بنمو العلف الأخضر خلال فترة قصيرة.
وأضاف أنه بعد ذلك “يصبح الشعير المستنبت جاهزا للتغذية المباشرة للمواشي، حيث يُحصد بكامل مكوناته، بما في ذلك الجذور والبذور، ويوفر علفا غنيا بالبروتينات والإنزيمات والألياف.”
وتشكل هذه المبادرة خطوة مهمة لبلورة مسار زراعة ذكية ومتأقلمة مع التحولات المناخية في أفق تعميمها على صعيد الإقليم والجهة.
ويقول المسؤولون إن الإقليم نموذج ناجح في ضمان علف مستدام وصحي للمواشي، وأداة لتحقيق تنمية شاملة، ترتكز على استدامة الموارد ونجاعة الإنتاج وتثمين المنتجات المحلية.
وشاركت المديرية الإقليمية للفلاحة بجرسيف في إنجاز هذا المشروع بالشراكة مع برنامج إحياء الذي يندرج ضمن إستراتيجية الجيل الأخضر 2020 – 2030، بكلفة مالية ناهزت 5.5 مليون درهم (550 ألف دولار).
وأكد المهدي الوادي، وهو مهندس يعمل بالمديرية، أن هذه الوحدة تعتبر قفزة نوعية في سياق الاعتماد على تقنيات الزراعة العصرية، لتعزيز سلاسل الإنتاج المحلية.
وقال “لقد تتميز الوحدة بقدرتها على إنتاج طن من الشعير المستنبت يوميا، انطلاقا من 200 كيلوغرام من الحبوب، في مدة سبعة أيام، ما يجعلها أكثر كفاءة وسرعة مقارنة بالأساليب التقليدية التي تتطلب أسابيع أو أشهرا.”
وشدد في تصريحاته لوكالة الأنباء المغربية الرسمية على أهمية المشروع في تحقيق مكاسب بيئية هامة، من خلال تقليص استهلاك المياه بنسبة 90 في المئة، لاسيما في ظل الجفاف الذي تشهده البلاد.
وما يؤكد أهمية هذا المشروع التجريبي هو اعتماده بشكل كلي على الطاقة المتجددة من خلال بناء الألواح الشمسية، ما يساهم في تقليل انبعاثات الكربون.
وذكر الوادي أن التعاونية تستفيد، ضمن برنامج “إحياء”، أيضا من برامج للتدريب، والمواكبة التقنية، الذي يستهدف 350 مستفيدا من المزارعين والكسابة (أصحاب الحيازات) الصغار بالمنطقة، بهدف تعزيز وتطوير قدراتهم وتحسين جودة الإنتاج.
ويقول الخبراء إنه لا يمكن، في مواجهة هذه التحديات، إنكار أن الابتكار يمثل الفرصة الأمثل لتحويل القطاع الزراعي وضمان الأمن الغذائي لبلد يتجاوز تعداد سكانه 37 مليون نسمة.
ولذلك يسعى المغرب إلى محاكاة بعض الدول العربية وفي مقدمتها الإمارات، التي تقدم حوافز سخية للاستعانة بالتكنولوجيا الزراعية العالمية لتحويل التحديات الراهنة إلى فرص واعدة تحقق منافع اقتصادية في المديين المتوسط والطويل.