القضايا المصيرية تحتاج من القاهرة إلى سياسة أكثر حسما

وكالة أنباء حضرموت

اعتادت مصر على التكيف مع الأزمات التي تحيط بها، ووجدت لنفسها طريقا سلكته جنّبها (مؤقتا) ارتدادات مباشرة على أمنها القومي، لكن في لحظة واحدة تزايد الانفجار في أزمتين قريبتين منها، وأصبحت مطالبة بتبني موقف حاسم حيالهما، الأولى ملف التوطين الذي خرج من رحم الحرب في غزة، والثانية ظهرت بعد مرور أيام على الأولى، حيث اقترب السودان خطوة من التقسيم بعد عزم قوى وحركات مسلحة تشكيل سلطة موازية للسلطة التي يشرف عليها الجيش في بورتسودان وتنحاز لها القاهرة.

ويمكن أن تتحمل مصر جزءا قليلا من الوضع الراهن في غزة انطلاقا من مسؤوليتها العربية، لأن الحرب التي شنتها إسرائيل على القطاع من صناعة حركة حماس، وتعاملت القاهرة مع نتائجها بما لا يجر قدميها ويورطها في حرب لا تريدها ويتم هدم معاهدة السلام التي يمثل الحفاظ عليها إحدى ركائز السياسة الخارجية لمصر.

لكن الوضع في السودان مختلف، فرغم انحياز القاهرة للجيش السوداني في حربه ضد قوات الدعم السريع منذ البداية، لم تقدم مصر مساعدات سخية تمكنه من التفوق العسكري مبكرا، إلى أن وجدت نفسها أمام خيار مصيري يتمثل في ظهور سلطة موازية لسلطة الجيش في بورتسودان، ما يفرض عليها مواجهة سيناريو شبيه بليبيا، أي وجود سلطتين إحداهما في طرابلس بالغرب والثانية في بنغازي بالشرق.

استطاعت القاهرة التكيف مع الحكومتين وتواءمت مع حساسية المواقف الناجمة عن هذا الانقسام والحفاظ على مصالحها الحيوية في ليبيا، لكن الوضع في السودان أشد خطورة، لأن توازنات القوة العسكرية قد تختل في الفترة المقبلة وتميل إلى صالح خصوم الجيش إذا تمكنوا من بناء مؤسسة عسكرية محترفة من جيوش الحركات المسلحة، واستطاعوا الحصول على معدات وأسلحة متقدمة.

ولا يعني رهان مصر على تقدم الجيش السوداني أنه قادر على الحسم قريبا، فمع وصوله الاثنين إلى مداخل الخرطوم الجنوبية المتاخمة لولاية الجزيرة والسيطرة على منطقة سوبا شرقا بعد معارك ضد قوات الدعم السريع، إلا أن الأخيرة يمكنها إعادة تموضعها بما يبعد الجيش عن تحقيق تقدم جديد، خاصة في اتجاه دارفور.

ويقول مراقبون إن مصر أهملت الحسم وابتعدت عن المواجهة المباشرة لبعض القضايا المصيرية، معتقدة أن طوفان الأزمات لن يقترب منها، أو لا يزال بعيدا، وتسبب التأجيل أو الترحيل في تراكم المشكلات وزيادة تشابكاتها ودخول منافسين لمصر على خطوطها، وصار ما كان يمكن علاجه في أيام أو أسابيع يحتاج إلى سنوات.

مصر أهملت الحسم وابتعدت عن المواجهة المباشرة في بعض القضايا المصيرية من حولها، معتقدة أن طوفان الأزمات لن يقترب منها

ظهرت الأزمة في ليبيا وزادت ملامحها الغامضة بصورة جعلت الحل بعيدا عنها، وارتاحت مصر للوضع الشائك في غزة وهي تعلم أنه شاذ ويصعب استمراره.

وقد بذلت جهودا في مجال المصالحة الفلسطينية، لكنها لم تستخدم وزنها وثقلها ونفوذها لإجبار الفصائل والحركات على التوافق حتى جاءت عملية طوفان الأقصى فقلبت التوازنات وبدأت تتغير معالم في المنطقة، وتوفرت لإسرائيل فرصة تاريخية للانتقام ووأد القضية الفلسطينية تماما، والسعي لإعادة هندسة الأوضاع.

ولا يختلف الحال كثيرا عن الموقف من سد النهضة الإثيوبي، الذي دخلت مصر بشأنه مفاوضات وراء أخرى بلا طائل، وفي النهاية ارتفع السد وأصبح شاهدا على قوة أديس أبابا وقلة حيلة القاهرة أو عجزها.

ومهما حاولت مصر التمسك بالحلول السلمية، فإن الأطراف التي تواجهها لا تعير هذه الحلول وزنا مماثلا يعلي من شأن التفاوض، ما يضع عثرات واحدة تلو الأخرى أمام مصر.

وخرج اجتماع وزير خارجية مصر بدر عبدالعاطي ووزير خارجية السودان علي الشريف في القاهرة الأحد بعناوين عريضة معتادة تؤكد على التوافق في العديد من القضايا المشتركة، والحفاظ على وحدة السودان، ورفض السلطة الموازية. ولا يُعرف كيف ستحول مصر، وهي الدولة العربية الكبيرة المحاطة بأزمات شرقا وغربا وجنوبا، وحدة السودان إلى واقع، بعد أن ظهرت معالم جلية قد تقوده نحو التقسيم.

وأعلنت وزارة الخارجية السودانية الأحد أن مصر ترفض قيام أي حكومة موازية للحكومة الشرعية في السودان، وهو تصريح لم تعترض عليه الخارجية المصرية ولا الحكومة، ما يعني أنه يعبر عن موقفها، الذي قد يضع عوائق أمام دورها في المستقبل في حال تحول المشهد كليا لصالح الحكومة الموازية وشركائها.

وما لم تظهر القاهرة قوة وبراغماتية في التعامل مع الأزمات التي تحيط بها، وهي ذات مكونات إستراتيجية، فسوف يأتي وقت يصبح فيه الحسم والتخلي عن المرونة لحساب الصرامة أمرا مفروضا وربما مرفوضا، لأن الأزمات المتناثرة قد تحدث بها هزات وانفجارات تزعج مباشرة الأمن القومي لمصر، ما يضطرها إلى تبني سياسات أكثر وضوحا، لو ظهرت في أجندتها من قبل لتحاشت بعض المطبات.

وصمدت مصر في مواجهة أزمة توطين سكان غزة، ونجح حسمها مبكرا في خلق عراقيل أمامه، وتمكنت بالتعاون والتنسيق مع دول عربية مهمة من أن تجعل التوطين ملفا يصعب قبوله، ويستحيل تطبيقه، فماذا لو اتبعت سياسات شبيهة في أزمات أخرى، كان بمقدورها أن تحقق نتائج جيدة، على الأقل أفضل من ارتكانها إلى مستوى مرتفع من السيولة في مواجهة أزمات خطيرة، تقود نتائجها السلبية على المدى المتوسط إلى تغيير كبير في الحسابات المصرية.