الاستعلاء الديني يهدم القيم بفرض الوصاية على المجتمع
تختلط الأمور عند الكثير من المتدينين في المجتمع العربي، خصوصا الشباب بين مفهوم التدين كعبادة وبين اكتسابهم أفضلية مجتمعية نتيجة التزامهم بتعاليمه، حيث يحاولون تمجيد هذا التدين فيعتبرون الاستعلاء نتيجة لكونهم متفردين في حين أن سببه الانتقال المفاجئ من عقدة النقص إلى عقدة التفوق.
وحذر أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية عمرو الورداني من مشكلة الطبقية الدينية التي باتت تهيمن على بعض الأوساط المجتمعية، مشيرا إلى أنها تؤدي إلى خلل في العلاقات بين الأفراد وتخلق نوعا من الاستعلاء الديني.
وقال الورداني خلال حلقة برنامج “مع الناس”، المذاع على قناة “الناس” إن الاستعلاء هنا ليس على أساس العلم، بل على أساس التدين، فهناك من يستخدم الدين كمبرر للسيطرة على الآخرين أو الحكم عليهم بشكل قسري.
وأضاف “كيف يمكن أن تبدأ الطبقية الدينية في البيئة الأسرية، حيث يُفاجأ الوالدان عندما يصبح الابن المتدين في مكانة أعلى ويبدأ في توجيه الأوامر لوالديه، وفي البداية قد يفرح الأهل بتدين ابنهم ويمنحونه سلطة على الأسرة، لكن ما يحدث لاحقا هو تحول هذه السلطة إلى نوع من القضاء على سلوك الأب والأم، حيث يبدأ الابن في توجيه النصائح والإرشادات، بل وقد يفرض نفسه كقائد للأسرة.”
وأكد أن هذه الطبقية تؤدي إلى تدخل الابن في تربية أخواته أو في تصرفات والديه، بحيث يرى نفسه مسؤولا عن رعاية الجميع، بما فيهم والداه، في بعض الأحيان، قد يصل إلى مرحلة يفرض فيها قيودا على تصرفات والديه، ويعتقد أن ذلك هو الطريق الوحيد لطاعة الله.
ويؤدي هذا النوع من التفكير إلى خلل في العلاقات الأسرية وقد يتسبب في توتر بين الزوجين، حيث قد يشعر أحد الزوجين بأن الآخر يمارس نوعا من الاستعلاء الديني على حسابه، وعلى سبيل المثال، الزوجة قد تشعر بأن زوجها ينظر إليها بعين الاحتقار بسبب طريقة تعبيرها عن تدينها، رغم أنها قد تكون بالفعل تقترب من الله في طاعتها.
وأكد أن ما يُسمى “عزة الإسلام” في هذه الحالات ليس سوى نوع من التفاخر والتكبر الشخصي، موضحا “عزة الإسلام لا تتحقق من خلال الاستعلاء على الآخرين أو فرض الرأي بالقوة، العزة الحقيقية تأتي من الأخلاق، وهي ما يجب أن يُظهره المسلم في تعامله مع الآخرين.”
وأشار إلى أن النبي محمد جاء ليتمم مكارم الأخلاق، قائلا “عندما نقول عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه ‘على خلق عظيم’، فهذا يعني أن العلو الذي تحدث عنه هو تجاوز السفساف والتمسك بالقيم الأخلاقية الرفيعة.”
وتجاوزت قضية الاستعلاء عند الكثير من الناس الحد الطبيعي كونها ثقافة تبث الثقة في الذات وفي المعتقد والمنهج، فاضطربت معانيها وتوترت مضامينها، إلى الحد الذي أصبح الاستعلاء يترافق مع شخصية المضطربين، والمهزومين في أعماقهم.
وتؤكد دراسات أن فكرة الاستعلاء ناتجة عن احتكار الحق، وقد روج لها الإخوان في المقام الأول، إذ اعتبر منظر الجماعة سيد قطب أن الإسلام قد غاب، وفكرة الاستعلاء بالدين هي فكرة إخوانية في المقام الأول أريد بها أن يوجد أناس هم فوق الجميع.
ويؤكد خبراء في هذا المجال أن الاستعلاء الديني يؤثر بشكل خطير على استقرار المجتمعات، ولا يمكن حمايتها من تراث الاستعلاء إلا بالتعليم وانتقاء مواضع القوة الإيجابية في التراث وتوظيفها في التعليم، وتجديد العلاقة بين الدين والمجتمع وبينه وبين الدولة بناء على ركائز تتمثل في التجاوب مع التحديات الاجتماعية والتفاعل مع إمكانات العصر الحديث وتحقيق السعادة الإنسانية.
حماية المجتمع من تراث الاستعلاء غير ممكنة إلا بالتعليم وانتقاء مواضع القوة الإيجابية في التراث وتوظيفها في التعليم
وعمل الأكاديمي المصري سعيد المصري على تقديم قراءة نقدية للتراث، بهدف توظيفه في صناعة التنمية والتقدم، وهو ما يتطلب حسم قضية الفروق بين ما هو سلبي وإيجابي فيه، دون الوقوع في انحيازات دينية أو عرقية أو سياسية، ولكن وفقا لأولويات الاهتمام بحياة الإنسان وسعادة البشر وحفظ كرامتهم الإنسانية.
وأكد المصري الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2021، فرع التنمية وبناء الدولة، عن كتابه “تراث الاستعلاء بين الفلكلور والمجال الديني”، أن ظاهرة الاستعلاء موجودة في كل العالم العربي، ولا تقتصر على دولة بعينها، مشيرا إلى أن الاستعلاء ليس واحدا ولكن له ثلاث صور، تتقاطع معا في متوالية الازدراء والإقصاء والعداء لكل من يختلف عنها، وهذه الأنماط هي الاستعلاء البدائي والطبقي والديني.
والاستعلاء البدائي هو نوع من التمييز يحدث بين البشر، وينمو بصورة تلقائية في ظل نمط من أساليب الحياة البسيطة التي تعلو فيها قيم مثل الفحولة والإثنية والعشائرية على غيرها من القيم، كما يمتد ليشمل الاستعلاء القائم على اختلاف لون البشرة والموقع الجغرافي وغيرهما، ويقوم على إعلاء شأن الجماعة الداخلية والتقليل من الآخرين المختلفين.
ومن أبرز مظاهر هذا النوع من الاستعلاء هو التمييز ضد المرأة، وهو ما يظهر في الصورة السلبية للمرأة في التراث، والتي تستمد معظم ملامحها من عناصر التراث مثل الأمثال الشعبية والنكات المتداولة والحكايات التراثية، “كلها تعكس هذا الاستعلاء النوعي، باعتبار أن عقل المرأة منساق وراء عاطفتها، على عكس الرجل الذي تظهره هذه الحكايات صاحب فكر عقلاني وقدرة على القيادة، كما ترسخ أن هناك أعمالا تناسب المرأة وأخرى لا تصلح لها، وغيرها من التصورات التي ينكرها علينا العلم ولكن نجدها راسخة في عقول الكثيرين وبعضهم من أكثر الناس تعليما، فهذا النوع من الموروثات لا يختفي بالتعليم”، لافتا إلى أن الاستعلاء البدائي يظهر كذلك في التمييز تجاه “أصحاب الهمم”، والسخرية منهم ومن إعاقاتهم في الأمثال الشعبية.
ويتمثل النوع الثاني من الاستعلاء بحسب المصري في الاستعلاء الطبقي، ويظهر نتيجة لاختلاف حظوظ الأشخاص من المال والممتلكات، خصوصا مع طفرة اختلاف الدخل بين أفراد المجتمع، لافتا إلى أن ثقافة الاستهلاك التي أصبحت سائدة في كل أنحاء العالم، زادت من حدة هذه الفروق الطبقية، وعززتها لتصبح مثل قدر مسلط على رقاب الجميع.
واعتبر الأكاديمي الحائز على جائزة الأمم المتحدة للتميّز في التنمية البشرية عام 2013، النوع الثالث من الاستعلاء وهو الاستعلاء الديني، يمثل تهديدا للوجود الاجتماعي، لما يفرضه من وصاية على الآخرين وحقهم في الوجود.
وتبرز وجهة نظر أخرى تتعلق بهشاشة الدين في نفوس معظم المسلمين إلى درجة أنهم لا يقدرون على اتباع تعاليمه بالشكل الذي وضعت عليه، في مقابل استعدادهم للدفاع عنه بكل ما ملكوا من قوة، وهذا الأمر يؤكد على التناقض المنتشر في أوساط المجتمعات التي تقدس الدين إلى درجة أصبح معها الدين غاية الغايات، دون أن يقدروا على اتباع طقوسه كما ينبغي، لذلك يحاولون التغطية على هذا القصور داخلهم بمسألة التفوق الديني أمام الآخرين ليختلط مفهوم الاستعلاء بالنفاق.
والنظرة الاستعلائية بين صفوف الإسلاميين تظهر جليا في مسألة العداء لفكرة العلمانية والادعاء بعدم ملاءمتها للواقع العربي، مع إصرار كامل من قبل المتدينين على رفض أي محاولة لفهم معانيها ودلالتها.
ويمكن فهم العداء الذي يكنه البعض من المتدينين تجاه العلمانية باعتبار أنها تحد من سلطتهم ومن فكرة تفوقهم وتعلي مفهوم المواطنة على المجتمع.
وتشير العلمانية إلى أربعة معان رئيسية. أولها المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. فمن رحم العلمانية ولد مفهوم المواطنة المدنية الجامعة وكفلت الدول الحديثة في دساتيرها وتشريعاتها حقوقا اجتماعية وسياسية متساوية لأبناء الوطن الواحد من أتباع الديانات المختلفة. وثانيها هو ضمان حرية ممارسة التعاليم والشعائر الدينية في إطار من المساواة القانونية لا يفرق بين دين الأغلبية ودين أو ديانات الأقلية ويحمي التعددية القائمة. فتقديم المواطنة المدنية على الانتماء الديني استتبع التزام الدول الحديثة الحياد التام بالامتناع في فعلها ومؤسساتها عن التمييز، إن كان إيجابيا أي المحاباة أو سلبيا أي الاضطهاد، باسم الدين.
أما المعنى الثالث للعلمانية فهو خضوع الهيئات الدينية، كغيرها من الهيئات الحكومية وغير الحكومية في المجتمع الحديث، لرقابة السلطات العامة خاصة السلطة القضائية بهدف المنع المسبق لأي تجاوزات قد تحدث داخلها أو الكشف اللاحق عنها ومعاقبة مرتكبيها.
وتستند العلمانية إلى نظرة واقعية للهيئات الدينية لا ترى بها مجرد كيانات طاهرة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها ولا تضفي قداسة على رجال الدين ومن ثم تعاملهم كغيرهم من المواطنين المسؤولين عن أفعالهم أمام القانون.
ويتمثل المعنى الرابع في تحول الدين بتعاليمه وهيئاته ورجاله ليصبح أحد الإطارات والأنساق القيمية الموجهة لحركة الدولة والمجتمع وليس الوحيد. لا تعادي الدول والمجتمعات الحديثة الدين، بل تمزج في تشريعاتها وتنظيمها بين معايير دينية وأخرى وضعية على نحو يبتغي تعظيم مساحات الكفاءة والرشادة والعقلانية والحرية ويحول دون تسلط فئة باسم الدين على بقية المجتمع.
لا ترتبط العلمانية، إذا، بمعاداة الدين أو فصله عن الدولة والمجتمع، إنما هي قبل كل شيء وفي الجوهر دعوة ومحاولة لتنظيم دور الدين ودمجه في إطار حديث يضمن المساواة بين المواطنين ويحمي التعددية والحرية الدينية. كذلك لا تنطوي العلمانية على رفض لدور الدين في الحياة السياسية، بل معظم المجتمعات الغربية صريحة العلمانية بها أحزاب وحركات تمارس السياسة والعمل العام بصورة علنية وفقا لمرجعيات دينية مختلفة، إلا أن الفيصل هنا هو التزامها بمعايير المواطنة المدنية بالبعد عن الممارسات التمييزية وعدم نزوعها لاحتكار السياسة باسم الدين.