هل توقف قوانين الملكية الفكرية الاعتياش على جهود الآخرين
يزداد أمر الجدل حول حماية الملكية الفكرية على مستوى كتابة سيناريوهات الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية. إذ ثمة معارك ساخنة في مصر حول سرقة مشاريع واقتباسات أفكار، مما وردت تفاصيله في مقال نشرته “العرب” يوم الأحد الموافق لـ8 ديسمبر 2024. ولقد نشرت متابعة صحفية أخرى منشورة في موقع الجزيرة بتاريخ 7 نوفمبر 2024 كشفت عما يجري على صعيد الأدب والنقد من تفشي ظاهرة السرقات الأدبية حتى صارت “علامة عربية مسجلة” على مستوى الكتابة الأدبية والأعمال النقدية والفكرية والترجمية.
إن هذا التفشي لظاهرة الاعتياش كنت قد تعرضتُ له شخصيا عبر الأخذ من أبحاثي وكتبي ومصادرة جهودي من لدن الكاتب المغربي ياسين معيزو بكتابه المعنون “انتهاك الأعراف السردية: إستراتيجيات السرد غير الطبيعي في رواية ما بعد الحداثة، روايات سليم بركات أنموذجا” (2024) والصادر عن دائرة الشارقة للثقافة، وفيه زعم أنه صاحب محاولة “جنينية في مجال مستحدث من مجال السرد ما بعد الكلاسيكي، لي فيه كتب ودراسات هو السرد غير الطبيعي”، ولعل هذا ما جعل مؤسسة الشارقة تمنحه جائزة النقد العربي لعام 2024.
الانتحال والتمويه
الانتحال والاعتياش العلمي ليسا من الغلاف إلى الغلاف؛ فقد تلونت أساليب الأخذ والتمويه واستغلال جهود الآخرين
الكاتب المذكور متابع لصفحتي على فيسبوك، وفيها أنشر كل ما يصدر لي من مقالات ودراسات في الصحف والمجلات غير أنه لم يشر إلى أي من أبحاثي أو كتبي في بحثه عن السرد غير الطبيعي، والذي كنت قد بدأت مشروعي فيه بمقالتي “علم السرد اللاطبيعي” المنشورة في 10 ديسمبر 2020 بصحيفة “القدس العربي”، واستمر الأمر حتى أنجزت كتابين هما “علم السرد غير الطبيعي” و”السرد غير الواقعي” 2022. هذا فضلا عن محاضراتي في منصات معروفة عدة، وجميعها مسجلة على يوتيوب، منها مثلا: منصة أطراس في المملكة العربية السعودية بتاريخ 29 مايو 2023، منصة المنتدى الثقافي البريطاني في لندن بتاريخ 3 مارس 2023، منصة زينب كحل الفردوس في كاليفورنيا بتاريخ 12 نوفمبر 2022.
أقول على الرغم من أن أغلب ما كتبته في السرد غير الطبيعي منشور في مواقع الصحف كـ”العرب” و”القدس العربي” و”الصباح” و”المدى” العراقيتين، ومواقع أخرى لمجلات عربية على مدى السنوات الخمس الأخيرة، فإن الكاتب ياسين معيزو يعلن أنه متفرد وأنه يقوم بمغامرة “جنينية” في ما تناوله من أسماء أعلام غربيين وفي ما عاد إليه من مصادر أجنبية. وبالمقابل أشار إلى مقالات غيري ممن كتبوا عن موضوعات ليست من السرد غير الطبيعي في شيء، كما في قوله في صفحة 33 من كتابه “في هذا السياق يطلعنا الناقد عبدالرحيم جبران إلى مسألة مهمة تتعلق بالتمثيل.. إن للتمثيل القدرة على أن ينقل العالم بطريقة مغايرة لما هو اعتيادي، على هذا الأساس تتكشف لدينا جيدا افتراضات نظرية السرد غير الطبيعي.”
ولقد اتخذتُ من رواية “فقهاء الظلام” نموذجا للسرد غير الطبيعي، وهذا ما فعله الكاتب معتاشا على أفكاري فيها، وقد أخذ روايتين أخريين للكاتب نفسه سليم بركات هما “السلالم الرملية” و”أرواح هندسية” إبعادا للربط بين كتابه وأبحاثي مع أن الروايتين خارج موضوع السرد غير الطبيعي. والدليل أنه لم يستعمل في تحليل رواية “السلالم الرملية” مقولات السرد غير الطبيعي، بل استعمل مقولات أخرى مع خلو هوامش هذا المبحث التحليلي بالتمام من أي مصدر من مصادر السرد غير الطبيعي الأجنبية.
قيمة الإبداع في أصالته، والمبدع الأصيل هو من كان جهده منطلقا من عنديات وعيه لا بالاعتياش على أفكار غيره ونسبتها إلى نفسه
وكذلك لم يتضمن تحليله رواية “أرواح هندسية” عبارة “غير الطبيعي” بل استعمل “مفارقات زمنية/ ما وراء السرد تغريب/ انفتاح الزمن/ تداخل الأجناس/ زمن دائري/ أبدية الزمن اللامتناهي/ الانعاكس الذاتي/ محاكاة ساخرة،” ومعلوم أن التجنيس وانفتاح الحدود النصية هما من المفاهيم التي ترد في أي نقد أدبي وفي أي نص سردي واقعي ولا علاقة للسرد غير الطبيعي بها.
والعجيب ما ختم به الكاتب معيزو تحليله مستعملا “العبور الأجناسي” وهو مفهوم من مفاهيمي التي اجترحتها وأغار عليه في ص7 واستعمله أيضا في عنوان الفصل الثاني من كتابه “العبور الأجناسي من الرواية إلى اللارواية”، من دون أن يحيل إلى كتابي الذي فيه اجترحت هذا المفهوم وهو “نحو نظرية عابرة للأجناس”، الصادر عن دار غيداء بالأردن عام 2019.
إن هذا الأمر يدعو إلى الاستفهام: أ ليس من أولويات الباحث الأكاديمي الموضوعية والصدق فلا يشك أحد في مسعاه البحثي؟
المعرفة الإنسانية متكاملة ومستمرة، فيها اللاحق يأخذ من السابق، ومن الكياسة أن يعترف للسابق بالأصالة واحترام منجزه
وعلى الرغم من أنني رفعت إلى الجهة الناشرة مذكرة تفصيلية بمواضع الأخذ والاعتياش والتشابه، غير أنها لم تهتم بالأمر. ولم أشأ أن أطرح القضية على العلن إلا بعد أن تأكدت من موقف المؤسسة أولا، واطلعت ثانيا على رأي مهم للمحامي المصري أحمد شهاب الدين ورد في مقال “العرب” المذكور أعلاه، ومما قاله “إذا كان وثّق فكرته أو سجلها مسبقا يمكنه تقديم ذلك كدليل، مثل المراسلات -البريد الإلكتروني والرسائل النصية على واتساب أو ماسنجر وغيرهما- وأنه عند لجوء صاحب الفكرة التي تمت سرقتها إلى القضاء لاسترداد حقه، فإن المحكمة تعتمد على ما يسمى بـ’تحليل التشابه’ بين الفكرة الأصلية والمشروع المشتبه بسرقته لتحديد الانتهاك، ولو حدث أن الفكرة المسروقة نُفذت بطريقة مشابهة بشكل واضح، يمكن أن يكون ذلك دليلا قاطعا يساعد على رفع دعوى قضائية ضد الجهة التي استغلت فكرته دون إذنه، مع تقديم الأدلة الموثقة.”
هذا ما شجعني وأعطاني الأمل بإمكانية أن أثير قضيتي على الملأ، أولا لأن الكاتب اتبع أساليب مختلفة في إعادة الصياغة والخلط عبر تمويه الأفكار واستعمال مفاهيمي الخاصة من دون أية إشارة إلي. وثانيا لأني حددت مواضع الاعتياش والتشابه في مذكرتي إلى الأمانة العامة لجائزة الشارقة بتاريخ 15 أغسطس 2024، ولكن لم يأتني رد منها إلا في 2 أكتوبر 2024 وهذا نصه “بخصوص رسالتك المرسلة إلى جائزة الشارقة للإبداع العربي الإصدار الأول والخاصة بصدور كتاب الأعراف السردية للكاتب ياسين معيزو الفائز بجائزة الشارقة بفرع النقد. الرسالة عبارة عن نقد لهيكلية البحث من وجهة نظرك فيما يختص بالموضوع المبحوث، إضافة إلى شكواك أن الكاتب تجاهل تجربتك وأبحاثك ومقالاتك. وهذا لا يضير البحث أو الباحث من جهة كونه قدم بحثا مستوفيا للشروط والضوابط المعمول بها، أما فيما يخص عنوان البحث تم تعديله من قبلنا وفق شروط وآليات قواعد النشر لدينا.”
يبدو أن المؤسسة مقتنعة بأنّ الانتحال والاعتياش العلمي كانا من الغلاف إلى الغلاف. وهذا أمر عفا عليه زماننا الحاضر، الذي فيه تلونت أساليب الأخذ والتمويه في الاعتياش على جهود الآخرين.
وثالثا هناك برامج خاصة تكشف مثل هذه الأمور مما تتبعه المجلات الرصينة ومنها برنامج تيرنت إن (Turnitin).
الإبداع أصالة
إن ما يؤسفني هو الحال الذي نحن عليه اليوم من ناحية تهاوننا أمام موضوع كهذا، ما سيشجع الكثيرين على التمادي فيه والاستحواذ على جهود السابقين وانتهاك ملكياتهم الفكرية.
وإذا كان ثمة من يبرر هذا الفعل بتوارد الخواطر؛ فلماذا إذن شُرِّع قانون الملكية الفكرية؟ ولماذا وضعت عقوبات صارمة بحق من ينتهك ملكية المؤلف والناشر؟
إن المعرفة الإنسانية متكاملة ومستمرة، فيها اللاحق يأخذ من السابق، ومن الكياسة أن يعترف للسابق بالأصالة أو على الأقل يحترم ما قدمه بأن يشير إليه بالتقدير.
إن تجاهل الكاتب ياسين معيزو جهودي لسنوات من البحث والدرس والترجمة لا يتعلق بالأمانة العلمية حسب، بل تعداه إلى “الاعتياش” حتى على أسماء الأعلام الذين كنت أنا أول من تناولهم بالنقد عربيا مثل براين ريتشاردسون وجان البر وبيو شانغ وهنريكنيسلن وستيفان إيفرسن وماريا ماكيلا، وكنت مرارا قد تناولت هؤلاء في كتاباتي من قبيل قولي في مقالتي المنشورة في صحيفة “القدس العربي” اللندنية 1 أغسطس 2022 “ريتشاردسون وستيفان إيفرسون وهنريسكوف نيلسون وبيو شانغ من اشتغلوا بهذا السرد، فضلا عن دراسات ماريا ماكيلا ومارينا جريشاكوفا وسيلفي باترون ومن قبلهم ديفيد هيرمان وان بانفيلد ومونيكا فلودرنيك” ومثل ذلك كثير.
هنا لا بد لي من تأكيد حقيقة أن المصادر “العربية” التي عاد إليها الكاتب هي في أغلبها لا صلة لها بالسرد غير الطبيعي كونها تتناول مسائل نقدية معتادة وطبيعية، بل اعتمد على مصادري وبخاصة المترجمة عن اللغة الإنجليزية التي كنت قد ذكرتها في دراساتي.
إن المواضع التي رصدتها في هذا المقال ليست كلها لكني اكتفيت بما قدمتُه هنا، لأن جهودي في السرد غير الطبيعي ليست مجهولة وهي منشورة على الشبكة العنكبوتية، وبإمكان أي باحث الوصول إليها.
إني أرى أن واجب المعنيين بأمر الثقافة عامة والأدب والنقد خاصة الحرص على نشر الزاد المعرفي العلمي الأصيل، وأن يحاربوا انتهاك الملكيات الفكرية عبر اعتمادهم أنظمة وبرامج خاصة في كشف الانتهاك والتشابه. وإن الصرامة مع هذا الموضوع الخطير واجبة عبر تشكيل لجان محايدة تنظر في هذه القضايا. وبذلك فقط يثبت المعنيون أنهم يتمتعون بالنزاهة العلمية وأنهم يدافعون عن الحقيقة وأن لها الأولوية في الحفاظ على الحقوق وملكيتها.
فقيمة الإبداع في أصالته، والمبدع الأصيل هو من كان جهده منطلقا من عنديات وعيه لا بالاعتياش على أفكار غيره ونسبتها إلى نفسه.
وأكرر مطلبي إلى دائرة الثقافة في الشارقة أن تعيد النظر في الموضوع وأهيب بها أن تضع مصلحة الأصالة الثقافية أولا، وهذا ما أتوسمه فيها باعتبارها مؤسسة رسمية هدفها خدمة الثقافة.