لتحطيم المعايير التقليدية للجمال
وجوه أحمد الصوفي تصلح أساسا جماليا لإقامة نظرية جمالية
يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : "الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح"، وهذا القول يكاد ينبض في كل عمل له وكأنه يتحدث بدلاً عنه، أو أنه يلخص ملامح تجربته وخصوبتها.
نعم الفن رؤيا (بمد الألف) جمالية يحشد فيها قوافل الحياة بكل ألوانها، وبنسيج إنساني يسمح بتوسيع رؤاه ودائرتها الملتهبة بمحطات مثيرة يشوبها قيم حقيقية بكل تفاصيلها الصغيرة.
قيم يسافر إليها الصوفي علّه يحصد ما تبقى منها في الأعالي أو خلف جدران تنتمي إلى هذا العالم بكل روحها، الروح الذي لا ينتهي لا في المكان ولا في الزمان، بل تحتفض بنبضها على إمتداد شهقة الألوان وهي تتحرك لتملأ اللوحة والعين معاً بولاداتها الكثيرة، وبمعطياتها التي لا تكتفي بالشرقي منها بل يغور في أجواء غربية / أوروبية وكأنه ينتمي إليها منذ قرون.
فتطلعاته المستقبلية تجعل من تجربته كشفاً لعوالم جديدة مهما كان الإختلاف حاضراً، ففي ذلك جرعة كبيرة من العافية يمكن زرعها في المسارات المحرضة لذلك، تلك المسارات الأكثر تنوعاً وتطوراً والأقل تعقيداً وتركيباً، الأكثر مساهمة في إستمراريتها ضمن متغيرات من الممكن ملامستها معرفياً و جمالياً، الأكثر فراسة في تكوين علاقات تخييلية وثيقة وممتعة بين كل ما يحدث أو ما يمكن أن يحدث بين أشكاله وخطوطه وألوانه بإنفعاليتها المرتبطة بسيكولوجية كل من الفنان والمتلقي معاً.
ويمكن العودة إلى إهتماماته العالية بالمتغيرات أو بالخصائص الدلالية لجماليات تجريبية مرتبطة دون شك بجوانب من رؤيته وقوتها وما فيها من معايير فلسفية التي ترتفع أو تنخفض وفقاً لإكتشافاته الجمالية في عمارته الفنية، فهو المدرك والمهتم بتماسك مفرداتها وتلاحمها، وهذا ما يشعره بالثقة في قدرته على القيام بوضع متغيرات أخرى في الإعتبار إن كانت أحادية الجانب أو متعددة الجوانب.
فهو وبحساسيته الجمالية المتصاعدة وضمن مهاراته الإدراكية المتزايدة يميل إلى التعرف على العلاقات النغمية بين تكويناته الفنية البصرية، البسيطة منها والمركبة في ضوء سمات أسلوبية خاصة به، دون أن تتحكم فيه المؤثرات الكثيرة التي قد تدفعه إلى الملل الشائع في الوسط التشكيلي ، ودون أن ينصاع للمعايير الإجتماعية التي ستختم فصوله بنهايات متكررة قاتلة .
أحمد الصوفي يحمل من المسؤولية والحب تجاه الفن ما يحمله الصوفي المتعبد تجاه ربه، وما تحمله الزهور تجاه الحياة، وما يحمله مم تجاه زين، فهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة والممسرحة ويزرع فيها من الأسئلة الجديدة ما يجعلها محاطة بلغة لها الأهمية كلها في محاولاته في إعادة نفسه من جديد.
فهي (اللغة) تركز على خصائص الشكل في المرتبة الأولى ثم تميل إلى مواضع أخرى وكأنها تقول لنا بأن العمل الفني هو عبارة عن قيم جمالية أولاً ثم تأتي القيم الأخرى الأخلاقية، السياسية ...إلخ، وبذلك تذهب إلى أبعد من كونه تأويل جديد لواقع الأمر، تذهب إلى كونه إحياء جديد لهذا الواقع الأمر، فالصوفي وفي ضوء هذه اللغة يقوم على تنشيط العلاقات التفاعلية بين مفرداتها بما يتلاءم مع حاجاتها الخاصة كأشكال تتسم غالباً بالجاذبية والجمال على نحو ظاهري وضمني معاً ما يعمق إرادة التغيير لديه بدءاً من المرحلة الجنينية ووصولاً إلى مرحلة الخروج إلى الحياة بجماليات جديدة.
وهنا تتلاءم رؤيته مع أدائه ما يكسب طريقته نفسها عمقاً قادراً على تحريك حاستي التذوق والفهم السليمين للفن، وهذا يساهم في تحسين كل من الكفاءة والمهارة لديه بالقدر ذاته الذي يساهم في رفع القدرة بدقة وحيوية على التصور نفسه، وما كل ذلك إلا لتحطيم المعايير التقليدية للجمال وترسيخ معايير جديدة يكون للحواس الداخلية بعواطفها البالغة الإكتمال الدور الأكبر والأهم.
وهذا ما يجعل صوته يتقدم على كل الأصوات الأخرى، يرافقه نوع من الإيماءات التصويرية بعلامات تتجول في حقله الفني وكأنها نغمات موسيقية منبثقة من حفيف شجرة تلاعب الريح أوراقها.
وما علينا إلا أن نحدق في هذا المشهد الحسي على نحو وثيق، على نحو ما ينعكس منه تلك الوجهة الجديدة الخاصة به والمنفتحة على إحتمالات تفسيرية لا نهاية لها حتى تبدو لنا زاهية بإنطوائية ظلالها الزاخرة بالحركة، وألوانها متجنبة البراقة منها و الناصعة، ألوان أساسها التراب، وهذا يسهل في ترفيع التنبيهات لدى المتلقي وإستثارته على نحو منخفض بداية، ثم على نحو منبسط، و أخيراً على نحو مرتفع حيث المزيد من الراحة و المتعة الإنسانية .
يبني الصوفي وجوهه من أمور جوهرية هي سلسلة إفتراضات وإستدلالات تكون دائماً محكمة لديه و ترتدي من الخيال ما يؤهلها في إحداث تفاوتات في العوامل الخاصة و تحيزاتها من الرعاية والإهتمام، وما تحتاجه من الحساسية التي توفر لها أمزجة مرهفة هي أقرب للموسيقى الطامحة للخروج عن المألوف وعباءته.
فطرح وجوهه بهذه الإشارات وبهذه الملامح وبهذه القوة هو أيضاً قرابة فنية متميزة وثيقة قادرة على خلق الدهشة ومرفقاتها، قادرة على تنشيط ملكة المفاهيم بتناغم وحرية، قادرة على التغلغل في أعماقها الباطنة ودمجها في ذاتها برمزية جليلة حافلة بتقسيمات فرعية تتألف من إيقاعات مختلفة ومتباينة تختفي جميعها حين العزف عليها متحدة بالموسيقى وما تصدره من روائح عبقة تتضوع في كل أرجائها، فوجوهه غابات و أدغال، سهول وجبال، صخور و أتربة، وجوه من الحياة تصلح أساساً جمالياً لإقامة نظرية جمالية.
فهذا المظهر الخارجي الحسي يقدم نفسه بوصفه شكلا قابلاً للرؤية، وتردداً متناغماً للأشياء التي قد تتوقف لولا توفر إرادة الإندفاع والتحريك، لولا توفر الرغبة الملحة التي لا تهدأ، فالدعوة هي دائمة للاإنتهاء، وهو الحامل دوماً لتداعيات متخيلة فيها تحضر تعابير وجوهه بكل إنفعالاتها دون أن تغيب عنها التفاصيل التي تحاكي زمناً هدّه التعب .