الأمم المتحدة في عيدها الثمانين: أزمة وجود في عالم يبتعد عن التعددية

وكالة أنباء حضرموت

في السادس والعشرين من يونيو 1945، وفي أعقاب واحدة من أعنف الحروب التي عرفتها البشرية، اجتمعت 50 دولة في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية لتوقيع ميثاق الأمم المتحدة، إيذانا بتأسيس كيان دولي يُفترض أن يكون حاملا للسلام، ومعبّرا عن طموح البشرية نحو تجاوز الحروب عبر الحوار، واحترام السيادة، والتعاون الجماعي.

واليوم، وبعد ثمانين عاما من ذلك التأسيس الطموح، تواجه المنظمة أزمة عميقة تهدد بتحوّلها إلى مجرد واجهة رمزية، عاجزة عن التأثير أو التأطير في نظام دولي يتجه نحو التفكك.

ولطالما عانت الأمم المتحدة من أزمات دور، خاصة في لحظات النزاع الكبرى. فمنذ فشلها الذريع في منع الإبادة الجماعية في رواندا (1994)، ومرورا بعجزها عن منع غزو العراق (2003)، وحتى صمتها شبه الكامل في وجه جرائم الحرب في سوريا، لاحقت المنظمة اتهامات بعدم الفعالية والحياد والانحياز. إلا أن ما يميّز اللحظة الراهنة هو تراكم الأزمات وتعدد مستويات الفشل، من مجلس الأمن المشلول بحق النقض (الفيتو)، إلى أزمة تمويل هي الأشد منذ نشأة المنظمة، وصولا إلى تحد وجودي يرتبط بغياب الإجماع حول شرعيتها.

ويصف المحلل ريتشارد غوان هذا الوضع بأنه “لحظة ذات خصوصية شديدة في صعوبتها”، مؤكدا أن “معظم الدول الأعضاء تعاني من خيبة أمل حيال عجز المنظمة، تحديدا مجلس الأمن، عن التصدي لأزمات دامية كالحرب الروسية الأوكرانية، أو المجازر في غزة، أو الانهيار في السودان. والسبب كما هو معروف، استخدام الفيتو من قبل الدول دائمة العضوية – أداة تحوّلت من وسيلة توازن إلى أداة شل”.

أزمة الهيمنة

لا تقتصر المشكلة على البعد السياسي فقط، بل تمتد إلى البنية المالية للمنظمة. الولايات المتحدة، المساهم الأكبر في ميزانية الأمم المتحدة، اتخذت خطوات متكررة لتقليص تمويلها، خاصة في عهد الرئيس دونالد ترامب، الذي اعتبر المنظمة “مسرحا للخطابات الفارغة”، وأوقف التمويل عن وكالات كبرى مثل الأونروا.

ومع انسحاب بعض الدول عن الالتزام المالي، واجهت المنظمة شللا حقيقيا في قدرتها التشغيلية، وهو ما دفع الأمين العام أنطونيو غوتيريش إلى إطلاق مبادرة “الأمم المتحدة 80″، التي تتضمن خطوات تقشفية حادة، أبرزها إلغاء الآلاف من الوظائف.

لكن تقليص التمويل ليس مجرد إجراء إداري، بل يعكس تحوّلات أعمق في النظرة للمنظمة. إذ أن صعود الشعبوية والقومية في عدد من الدول الغربية، يقوّض فلسفة التعددية، ويقود إلى انسحاب ضمني من النظام الأممي القائم على التعاون والمؤسسات.

ورغم أن الأمم المتحدة هي المرجعية العليا للقانون الدولي، فإن الواقع يكشف عن هشاشة العلاقة بين النصوص القانونية والممارسة. عشرات القرارات الأممية (خصوصا تلك المتعلقة بإسرائيل أو الاحتلالات العسكرية) لم تُنفذ، ما عزز الاعتقاد بأن القانون الدولي لا يُطبق إلا على الضعفاء، بينما تُعفى الدول الكبرى أو المدعومة منها.

وهذا التناقض بين الشرعية والقوة بات جزءًا من خطاب الدول المتوسطة والجنوبية التي تطالب بإصلاحات جذرية لا تعيد فقط هيكلة المنظمة، بل تُعيد تعريف “الشرعية الدولية” على أسس عادلة، لا انتقائية.

وفي العقود الأخيرة، أصبحت الأمم المتحدة نفسها ساحة للمواجهة بين الأقطاب، لا وسيلة للوساطة بينهم. الجلسات الطارئة لمجلس الأمن أو الجمعية العامة تحوّلت إلى منابر خطابية، لا أدوات قرار. وغالبا ما تُستخدم المؤسسات الأممية كمسرح للاستعراض السياسي، بينما تُدار الاتفاقات الحقيقية خارجها، عبر تكتلات إقليمية أو مفاوضات خلف الكواليس.

وهذا التحوّل من الوساطة إلى “التشظي الداخلي” أضعف من حيادية المنظمة، ودفع العديد من الأزمات الكبرى إلى أن تُحل (أو تتفاقم) دون المرور عبر الأمم المتحدة.

وتكشف هذه الخلفيات أن أزمة الأمم المتحدة ليست طارئة أو عارضة، بل ناتجة عن تراكم تاريخي لمنظومة تأسست في لحظة عالمية مختلفة تماما. وهي اليوم تواجه عالما جديدا بمعايير معقدة، حيث تتراجع الدولة الوطنية أحيانا أمام الشركات العابرة، وتتصارع القوى العظمى على الشرعية أكثر من المصالح، وتتسابق التكتلات على إدارة النظام بدل حفظه.

انحدار التعددية

ترى الباحثة غيسو نيا، من المجلس الأطلسي، أن العالم يتجه أكثر فأكثر نحو منطق “الأقوى يفرض الحق”، وهو ما يتناقض مع الأسس التي قامت عليها المنظمة بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي هذا العالم، تصبح الدول الكبيرة أكثر ميلا إلى تجاهل القواعد الدولية، بينما تُتهم المنظمة، من قبل دول مثل إسرائيل، بالتحيّز والازدواجية، ما يترك أثرا بالغا في سمعتها وقدرتها على العمل بحرية.

وفي الوقت ذاته، تتحمّل المنظمة جزءًا من المسؤولية. إذ فشلت عبر العقود في إجراء إصلاحات بنيوية جوهرية، خاصة لمجلس الأمن، الذي لا يزال عاكسا لميزان قوى يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، دون أن يعكس التغيرات الكبيرة في بنية النظام الدولي، مثل صعود قوى إقليمية جديدة (الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا، إلخ).

ومنذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، بدأت توازنات القوة الدولية في التحول. صعدت الصين لتصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي، وتعزز دور روسيا كقوة تدخل إقليمي، بينما شهدت الولايات المتحدة وأوروبا تحولات داخلية انعكست على مواقفهما الخارجية (مثل الانكفاء الأميركي في عهد ترامب، وصعود الحركات القومية في أوروبا).

كل هذه التحولات قوّضت مفهوم التعددية، ودفعت الكثير من الدول إلى مقاربة أكثر واقعية وأقل التزاما بالقواعد الأممية. وسحبت هذه البيئة من الأمم المتحدة الكثير من القدرة على التأثير، سواء في السياسة أو الأمن أو حقوق الإنسان.

ورغم هذا التراجع، لا يمكن إغفال أن الأمم المتحدة لا تزال تؤدي أدوارا حيوية، خاصة في المجالات الإنسانية. برنامج الأغذية العالمي، مثلا، قدم مساعدات لأكثر من 100 مليون شخص في أكثر من 120 بلدا خلال العام الماضي، وهو رقم يعكس استمرارية الدور الإغاثي للمنظمة رغم شحّ التمويل.

تراكم الأزمات وتعدد مستويات الفشل، من حق النقض إلى أزمة تحد وجودي يرتبط بغياب الإجماع حول شرعيتها

كما تستمر عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في توفير قدر من الحماية في مناطق نزاع مثل مالي وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، رغم الانتقادات المتكررة لأدائها.

وربما الأهم أن المنظمة لا تزال توفر منصة جامعة – تقريبا الوحيدة – تتيح للدول الصغيرة والمتوسطة التعبير عن مواقفها على قدم المساواة مع القوى الكبرى، وهو ما يجعل منها ضرورة أخلاقية، حتى وإن لم تكن فعالة سياسيا كما يأمل الكثيرون.

ويدعو بعض المحللين إلى إصلاح شامل لبنية المنظمة، عبر توسيع مجلس الأمن، وتقييد استخدام الفيتو، وربط التمويل بمستويات أداء ومحاسبة شفافة. إلا أن تحقيق مثل هذه الإصلاحات يتطلب توافقا بين الدول الخمس الكبرى، وهو أمر مستبعد في ظل التوترات المتصاعدة بينها، من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي.

وتشعر العديد من الدول في الجنوب العالمي أن الأمم المتحدة لا تمثّل مصالحها بشكل كاف. دول مثل الهند، البرازيل، نيجيريا وجنوب أفريقيا تطالب بتمثيل دائم في مجلس الأمن، وتعتبر أن النظام الدولي ما زال يعكس توازنات القوى في منتصف القرن العشرين، لا القرن الحادي والعشرين.

كما أن النقاشات المتكررة حول “ازدواجية المعايير” في قرارات الأمم المتحدة، خصوصا تجاه قضايا مثل فلسطين، أو التدخل في ليبيا، أعادت إنتاج شعور عالمي بأن المنظمة باتت رهينة الإرادة السياسية للقوى الكبرى.

ويحذر الباحث روموالد سيورا من أن الفشل في إصلاح المنظمة قد يؤدي إلى “تلاشيها البطيء”، كما حصل مع عصبة الأمم في ثلاثينات القرن الماضي، التي فشلت بدورها في كبح صعود الأنظمة الفاشية، وانتهت بالحرب العالمية الثانية.

وفي الذكرى الثمانين لتأسيسها، تجد الأمم المتحدة نفسها أمام مفترق طرق: إما أن تعيد تعريف دورها ومكانتها ضمن عالم يتغير بسرعة، أو أن تسلك طريق التآكل البطيء لتتحول إلى هيكل رمزي عاجز عن أداء الحد الأدنى من وظائفه. وفي زمن الحروب الممتدة، والتغير المناخي، والانقسام التكنولوجي، وتراجع القيم الإنسانية، لم تعد الحاجة إلى منظمة جامعة وفعالة ترفا، بل أصبحت ضرورة حيوية. لكن بقاء الأمم المتحدة لن يكون مضمونا ما لم تقرّ الدول الأعضاء أن إصلاح المنظمة هو في جوهره إصلاح للنظام الدولي كله.