العراق يتقدم خطوة لفك الارتباط بإيران لكن الاستقلال في مجال الطاقة تعترضه تحديات
يمثل إطلاق مشروع محطة الناصرية لإنتاج الطاقة الكهربائية خطوة إيجابية في مسار تقليل الاعتماد على إيران، لكنه في ذات الوقت يكشف حجم التحدي الذي يواجه العراق في سعيه نحو استقلال طاقي فعلي.
وفي خطوة قد تكون فاصلة نحو تحسين وضع الكهرباء في العراق، أطلق رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني أمس الاثنين الأعمال التنفيذية لمشروع محطة كهرباء الناصرية، التي ستصل طاقتها الإنتاجية إلى 921 ميغاواط في محافظة ذي قار، جنوب بغداد.
وتعد هذه المحطة التي يتم تنفيذها بالتعاون مع شركة سيمنس الألمانية، جزءا من إستراتيجية أكبر تهدف إلى تعزيز قدرة العراق على تلبية احتياجاته من الطاقة وتقليل اعتماده على الدول المجاورة، وعلى رأسها إيران، التي لطالما شكلت مصدرا رئيسا للكهرباء في ظل العجز المزمن في شبكة الكهرباء المحلية.
وتأتي الخطوة بعدما أنهت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعفاءات الممنوحة للعراق لشراء الكهرباء من إيران، وذلك ضمن حملة “أقصى الضغوط” التي تنتهجها الإدارة الأميركية الحالية تجاه طهران، وهو قرار دفع بغداد إلى البحث عن بدائل جديدة لتلبية احتياجات البلاد.
الخطوة تأتي بعدما أنهت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعفاءات الممنوحة للعراق لشراء الكهرباء من إيران
وسيكون مطلوبا من العراق بموجب سياسة ترامب المشدّدة ضد إيران أن يلتزم بحَرْفية العقوبات الأميركية المفروضة عليها وأن يضبط حركة تسريب الدولار إليها لتجنّب لجوء واشنطن إلى وقف المبالغ التي تحولها إليه بشكل منتظم وهو إجراء سيكون له في حال تنفيذه أسوأ الأثر على وضعه الاقتصادي والمالي.
ويعاني قطاع الكهرباء في العراق من مشاكل عديدة على الرغم من الأموال الطائلة التي أنفقتها وزارة الكهرباء، وبحسب المستشار الحكومي والخبير الاقتصادي مظهر محمد صالح، فإن الطاقة الكهربائية استنزفت بعد عام 2003 أكثر من 120 مليار دولار، ولكن عملية تأمين الطاقة لا تزال متعثرة بسبب سوء الإدارة والهدر والفساد.
وأدى العجز في توفير الطاقة الكهربائية في العراق إلى بقاء سوق المولدات الأهلية نشطاً، رغم أن غالبيتها قديمة وتصدر محركاتها المتهالكة دخاناً أسود اللون (دقائق الكربون) إضافة إلى الضوضاء العالية، بسبب عدم التزام الكثير من أصحابها باستخدام ما يعرف بكاتم صوت المحرك.
ومنذ العام 2003 ولغاية اليوم، لم تشهد الطاقة الكهربائية في العراق أي تحسن ملحوظ، وفي كل صيف تتجدد التظاهرات في مدن الوسط والجنوب، احتجاجا على تردي تجهيز الطاقة.
ويواجه العراق أزمة طاقة مستمرة منذ سنوات، كانت في الكثير من الأحيان موضع انتقاد داخلي وخارجي بسبب ضعف البنية التحتية والطاقة الإنتاجية المتواضعة لمحطات الكهرباء.
المحطة ستوفر 921 ميغاواط باستعمال الغاز الطبيعي مع إمكانية اعتماد تقنية الخلط مع الهيدروجين في المستقبل
وإضافة إلى ذلك، كان العراق يعتمد بشكل كبير على إمدادات الطاقة الإيرانية التي تمثل جزءًا كبيرا من احتياجاته في أوقات الذروة. وقد أدى هذا الاعتماد إلى تداعيات سياسية واقتصادية، خصوصا في فترات التوترات بين البلدين، ما جعل بغداد في موضع ضعف حينما كانت الإمدادات الإيرانية تتعرض للضغط أو التوقف في بعض الأحيان.
وفي ظل هذا الواقع، بدأت الحكومة العراقية تدرك ضرورة اتخاذ خطوات إستراتيجية لتحسين قطاع الكهرباء الوطني وتطوير مصادر محلية للطاقة، بما يساهم في فك الارتباط في مجال الطاقة مع إيران.
وأضاعت الحكومات العراقية وقتا ثمينا لحلّ معضلة الكهرباء التي لا تبدو مناسبة بأيّ شكل للبلد الغني بالنفط والذي يُتلف سنويا كميات كبيرة من الغاز المصاحب لاستخراج الخام والتي يتمّ حرقها وكان استغلالها كفيلا بحل مشكلته إلى حدّ كبير.
ويرى محللون أن محطة كهرباء الناصرية التي تستخدم الغاز الطبيعي كمصدر أساسي للطاقة، تمثل بداية تحول حقيقي في استراتيجية العراق في مجال الطاقة.
ويأتي هذا التحول في وقت حساس، إذ يعاني العراق من أزمات اقتصادية وسياسية معقدة تجعل أي نوع من الاعتماد الخارجي يشكل مصدر قلق على المدى الطويل. فالتوجه نحو الطاقة المحلية، وبالأخص الغاز الطبيعي، من شأنه أن يعزز من الاستقرار الداخلي ويساهم في تخفيف الضغوط السياسية التي كان العراق يتعرض لها بسبب ارتباطه بمصادر الطاقة الإيرانية.
ولا تقتصر خطط الحكومة العراقية على مجرد تحسين الإنتاج الكهربائي، بل تمتد أيضا إلى تنفيذ مشاريع طاقة نظيفة باستخدام تقنيات حديثة مثل الهيدروجين.
وتظهر هذه الخطوة التزام العراق بالتحول نحو مصادر طاقة أكثر استدامة، وهو ما يفتح أمامه آفاقا جديدة لا تقتصر على تقليل الاعتماد على إيران، بل على تحسين وضعه البيئي والاقتصادي في المستقبل.
ورغم هذه التوجهات الإيجابية، تبقى أمام العراق تحديات كبيرة في طريقه نحو تحقيق استقلال طاقي كامل.
ورغم ما يمتلكه العراق من موارد طبيعية هائلة، خاصة في مجال النفط والغاز، إلا أن تحقيق استقلال طاقي فعلي ظل هدفًا مؤجلًا لعقود، بفعل مجموعة من التحديات العميقة والمتشابكة التي تراكمت نتيجة للظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي مر بها البلد منذ عقود.
وتتعلق أولى هذه التحديات بالبنية التحتية المتقادمة. فالعديد من محطات الكهرباء وشبكات النقل والتوزيع تعود إلى ما قبل عام 2003، وبعضها إلى حقبة الثمانينيات، وقد تعرضت لأضرار جسيمة خلال الحروب والعقوبات والصراعات الداخلية.
وحتى بعد التغيير السياسي في العراق، لم تُنفذ مشاريع إعادة الإعمار بالسرعة والكفاءة المطلوبتين، مما أدى إلى فجوة ضخمة بين الطاقة المنتجة وتلك المطلوبة فعليًا لتغطية الاستهلاك الوطني.
ويُمثل الفساد الإداري والمالي تحديا مركزيا. فقد فشلت مئات المشاريع في مجال الطاقة التي تم الإعلان عنها على الورق، إما بسبب سوء الإدارة، أو إسناد العقود لشركات غير كفؤة، أو اختفاء الأموال المخصصة ضمن صفقات مشبوهة.
وتشير تقارير رسمية ودولية إلى أن قطاع الكهرباء كان من بين أكثر القطاعات استنزافا للمال العام دون نتائج ملموسة على الأرض.
ورغم أن العراق يُعد رابع أكبر منتج للغاز المصاحب في العالم، إلا أنه يحرق أكثر من نصف إنتاجه اليومي بسبب غياب البنية التحتية اللازمة لجمعه ومعالجته.
ودفع هذا النقص العراق إلى استيراد الغاز من إيران لتشغيل محطاته، وهو ما أدى إلى خلق تبعية استراتيجية معقدة لا ترتبط فقط بإمدادات الكهرباء، بل أيضًا بعلاقات مالية وسياسية حساسة، خاصة في ظل العقوبات الدولية المفروضة على طهران، والتي تؤثر بدورها على قدرة العراق على السداد واستمرار الإمدادات.
ويواجه العراق أيضا تحديات تتعلق بـضعف شبكة التوزيع وسرقة الكهرباء، حيث تتسبب الأعطال الدائمة والفقد الفني والتجاري في فقدان نسبة كبيرة من الطاقة المنتجة قبل أن تصل إلى المستهلك. وهو ما يجعل أي زيادة في الإنتاج، دون إصلاح شبكة التوزيع، غير ذات أثر حقيقي على استقرار التجهيز الكهربائي.
وعلاوة على ذلك، يحتاج العراق إلى توفير بيئة تشريعية وتنظيمية تحفز الاستثمارات في قطاع الطاقة بشكل أكبر، بحيث يتمكن من تأمين التمويل اللازم لهذه المشاريع الضخمة.
ولا يعتبر الفكاك السريع من الارتهان للغاز الإيراني مهمة سهلة، ليس فقط بسبب العوائق التقنية والمالية، ولكن أيضا بسبب عوائق ذات طبيعة سياسية تقف وراءها أحزاب وفصائل ذات نفوذ كبير ومعروف عنها ولاؤها لإيران وحرصها على تأمين مصالح الجمهورية الإسلامية بما في ذلك مساعدتها على الالتفاف على العقوبات الأميركية باستخدام مقدرات الدولة العراقية.