أمن أوروبا في زمن التقلبات.. فجوة بين الالتزامات والإمكانيات

وكالة أنباء حضرموت

ثغرة في السياسة الخارجية الأوروبية يعتقد مفكر أمريكي شهير أنها أحدثت خللا بين الالتزامات والإمكانات ما أثر سلبا على الأمن.

في كتابه الصادر عام ١٩٤٣ بعنوان "السياسة الخارجية الأمريكية: درع الجمهورية"، اعتبر الصحفي والمفكر السياسي الأمريكي الشهير والتر ليبمان أن السياسة الخارجية يجب أن تكون متوازنة بمعنى أن تتوافق التزامات الدولة الخارجية مع قوتها.

ورأى ليبمان أن السياسة الأمريكية دائما ما كانت غير متوازنة، وانطلاقا من هذا المفهوم تبدو السياسة الخارجية الأوروبية اليوم "عاجزة".

و"العجز" نابع عن كون التزامات القارة العجوز وطموحاتها الخارجية لا تدعمها أي قدرة حقيقية على تعزيزها، أو الدفاع عنها عند الحاجة فكلها مبنية على مفاهيم مثالية سواء للعلاقات الدولية، أو للقوة، وذلك وفقا لما ذكرته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية.

وفي ظل عقود من نقص الاستثمار في الدفاع فإن حتى الزيادة البطيئة في الإنفاق لن تُعالج الضعف العسكري الهائل الذي نشأ.

ويعتقد ليبمان أن السياسة الخارجية غير المتوازنة تُحدث انقسامات داخلية جديدة وتُعزز الانقسامات القديمة، مما يؤدي إلى دعم آفاق استراتيجية متباينة للغاية فالمجتمع يميل إلى التوحد خلف سياسة متوازنة.

الالتزامات والإمكانيات

يرجع ليبمان العديد من الانقسامات الحالية في أوروبا بشأن السياسة الخارجية، على الأقل جزئيا، إلى أن التزاماتها تتجاوز إمكانياتها، وبالتالي تتفاقم المناقشات حول الأمن بما يؤدي إلى تضخيم الخلافات حول قضايا أخرى أقل أهمية.

أما الأثر الثاني للسياسة الخارجية المتعثرة فهو إضعاف الدولة داخليا ودعوة الأعداء إلى اختبار دفاعاتها، وغالبًا ما تكون الحروب هي النتيجة.

وخلال العقود الثلاثة الماضية، بدا أمن أوروبا غير متأثر ظاهريًا بالفجوة الهائلة في قدراتها بسبب الدور الذي لعبته الولايات المتحدة كضامن وداعم للقارة، بدءًا من الحروب في يوغوسلافيا في التسعينيات وحتى حرب ليبيا عام 2011.

كما حاربت الولايات المتحدة داعش وسلحت أوكرانيا في حربها مع روسيا، ومؤخرا تحاول إعادة فتح طريق الشحن في البحر الأحمر الحيوي للتجارة الأوروبية والذي كان تحت تهديد مليشيات الحوثي منذ عام 2023.

وبالتالي، كانت أوروبا ولا تزال آمنة فقط لأن الولايات المتحدة جعلتها كذلك، ولكن هذا "أمن غير مستحق"، على حد تعبير ليبمان في كتابه.

لكل شيء ثمن
تجاهلت نشوة الأوروبيين بالنجاح الظاهري لمشروعهم السياسي والاقتصادي في التوحيد السلمي حقيقة أن كل ذلك أصبح ممكنًا بفضل الدعم الأمريكي حيث ازدهر التناغم الأوروبي بفضل الأموال والأسلحة الأمريكية التي تحمي حدودها ومناطقها الواقعة خارجها.

وأصبح العديد من الأوروبيين يعتقدون أن أمنهم ورفاهيتهم حق طبيعي مقابل تفوقهم الأخلاقي وهو تفكير كسول لأنه لم يكن هناك ثمن يجب دفعه.

فحتى 2008 تقريبًا، كانت روسيا تُركز على مشكلاتها الداخلية لا على طموحاتها، كما كان القوس الجنوبي الممتد من المغرب العربي إلى بلاد الشام مستقرًا نسبيًا، وكانت الصين لا تزال تتعافى من اكتفاء ذاتي ولم يكن للولايات المتحدة منافسون، لكن هذا الوضع الجيوسياسي لم يعد قائمًا.

وفي الوقت نفسه، تطلعت أوروبا التي تعتقد أن الأمن مجاني إلى التزامات أكبر وأوسع نطاقًا لم تستطع دعمها، وتُعدّ أوكرانيا أحدث وأبرز مثال على فجوة ليبمان هذه مثل قبول عضوية كييف في الاتحاد الأوروبي.

ويتجلى إفلاس أوروبا بوضوح في منطقة البحر الأبيض المتوسط حيث لا يمكنها وقف أزمة الهجرة المستمرة على الرغم من آثارها الضارة على السياسة الداخلية.

وفي البحر الأحمر، كان الرد الأوروبي على هجمات الحوثيين ضئيلاً وغير جاد على الرغم من أن حوالي 40% من التجارة بين آسيا وأوروبا، بما في ذلك واردات الطاقة الحيوية، تستخدم هذا الطريق.

وأظهر قائد القوة البحرية للاتحاد الأوروبي المكونة من 3 سفن والمسؤولة نظريًا عن الحفاظ على أمن الممر البحري وجهات نظر أوروبا المثالية، فقال أوائل الشهر الجاري "نحن نحمي المنافع العالمية المشتركة مثل حرية الملاحة".

في هذه المرحلة

يكمن حلُّ عجز السياسة الخارجية في المطالبة بأقلّ أو بذل المزيد من الجهد لكن من الصعب التنصل من بعض التزامات أوروبا الخارجية في هذه المرحلة.

فمثلا بالنسبة لأوكرانيا، سيكون تراجع السياسة الخارجية الأوروبية عن التزاماتها أمراً بالغ الخطورة لأنه سيُهدي روسيا أعظم نصر استراتيجي منذ عام 1945.

كما أنه لا يمكنها تجاهل أهمية الممرات البحرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي لأن اقتصاداتها تعتمد على المرور الآمن للسفن هناك، ولن يؤدي تجاهل شمال أفريقيا وبلاد الشام إلا إلى ازدياد الهجرة غير المنضبطة إلى أوروبا.

ولذلك، فإن السبيل الوحيد لأوروبا هو بذل المزيد من الجهد أي تنمية قوة جيوشها بسرعة لتغطية التزاماتها في السياسة الخارجية.

ولم يعد بالإمكان اعتبار نسبة الإنفاق العسكري، مثل 3% أو حتى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لنفقات الدفاع نجاحًا، حيث كانت تلك الأرقام تليق بعصر الأمن غير المستحق.

ولسدّ الفجوة، سيتعين على أوروبا أن تقبل إنفاقا أعلى مثلما فعلت الولايات المتحدة خلال العقود القليلة الماضية، فنادرًا ما تم تمويل الإنفاق العسكري من خلال تخفيضات في النفقات الاجتماعية بل عن طريق زيادة الديون والضرائب.

وأخيرًا، فإن إفلاس أوروبا الأمني ليس مشكلة أوروبا فحسب فكلما أسرع الأوروبيون في إعادة تسليح أنفسهم، كان ذلك أفضل ليس فقط للقارة بل أيضًا للتحالف عبر الأطلسي.