ماكرون على حق.. «اعتراف أوروبي» متأخر قد يكلفها كل شيء
لطالما سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وضع نفسه في طليعة تحول جوهري في النظرة الأمنية لأوروبا.
وبحسب مجلة "نيوزويك" الأمريكية، تقوم هذه النظرة على زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير وتعزيز الاستقلالية عن الولايات المتحدة.
واليوم، بينما يشير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تحوّل جيوسياسي كبير من خلال تقاربه المتزايد مع روسيا، بعد ثلاث سنوات من دعم عسكري أمريكي متزايد لأوكرانيا في أكثر الصراعات الأوروبية دموية منذ الحرب العالمية الثانية، يبدو أن دعوات ماكرون المتكررة لتعزيز القدرات العسكرية الأوروبية المتكاملة والمستقلة قد ثبتت صحتها.
لكن رغم الشعور المتزايد بالإلحاح، تظل هناك شكوك حول مدى سرعة تحرك الاتحاد الأوروبي، المعروف بتعقيداته البيروقراطية وانقساماته السياسية، نحو تحقيق هذا الهدف. فالفشل في ذلك قد تكون له عواقب وخيمة على مستقبل القارة.
منذ تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية، ظل الاتحاد الأوروبي كيانًا سياسيًا واقتصاديًا متكاملًا في مجالات مثل العملة والقوانين، لكنه ظل يعتمد أمنيًا إلى حد كبير على حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة. غير أنه مع تزايد الانتقادات الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، خاصة من ترامب الذي وصف الحلف بأنه "عفا عليه الزمن"، تصاعد الجدل حول مستقبل الأمن الأوروبي.
ومنذ وصوله إلى السلطة عام 2017، بدأ ماكرون بالدعوة إلى تشكيل "جيش أوروبي حقيقي" كبديل للناتو، محذرًا في عام 2019 من "الموت الدماغي" للحلف. وأصر ماكرون على هذا المسعى رغم تضاؤل الزخم مع انتخاب الرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن والعودة الواضحة إلى التوازن في العلاقات عبر الأطلسي. وفي عام 2022، بعد زيارة للصين، ناشد "الاستقلال الاستراتيجي" الأوروبي أو المخاطرة باللجوء إلى فكرة كونهم مجرد "أتباع لأمريكا" على المسرح العالمي.
وأثارت تعليقات الزعيم الفرنسي جدلاً في ذلك الوقت في واشنطن وعواصم أوروبية أخرى. ولكن عودة إدارة ترامب الجريئة هذا العام، والتي التزمت بتسوية سريعة للحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث يأمل عدد من دول الاتحاد الأوروبي في استمرارها نحو تحقيق النصر لكييف، والتشكك الصريح من جانب البيت الأبيض في الدور الأمريكي في أوروبا، عادت كلمات ماكرون من جديد لصدارة المشهد الأوروبي.
ويقول باري بوزن، أستاذ العلوم السياسية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: "هناك حاجة ملحة اليوم لجيش أوروبي، لكن كان يجب أن يكون هناك إدراك لهذه الحاجة منذ الولاية الأولى لترامب".
التحديات المالية والهيكلية أمام تعزيز القدرات الدفاعية
ويرى خبراء أن أوروبا بحاجة إلى زيادة ميزانيتها الدفاعية بنحو نصف في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الأقل، وهو أمر يتطلب إما تقليص برامج الرعاية الاجتماعية، أو زيادة الضرائب، أو اللجوء إلى الاقتراض.
ويقول سفين بيسكوب، مدير برنامج "أوروبا في العالم" في معهد إغمونت: "العديد من الدول الأوروبية رفعت ميزانياتها الدفاعية بالفعل، لكن المشكلة ليست فقط في الإنفاق، بل في الاعتماد الكبير على الولايات المتحدة في مجالات مثل الاستخبارات العسكرية والقدرات الصاروخية والدفاع الجوي."
وسلكت فرنسا مسارًا مستقلًا عن الناتو، إذ انسحبت عام 1966 من القيادة العسكرية المتكاملة للحلف ولم تعد إليها إلا في عام 2009. واليوم، تظل فرنسا الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تمتلك قوة نووية مستقلة، إلى جانب المملكة المتحدة، التي غادرت الاتحاد الأوروبي رسميًا في عام 2020.
ويشير بيسكوب إلى أن "فرنسا والمملكة المتحدة ستكونان الركيزتين الأساسيتين لأي مشروع دفاعي أوروبي أكثر استقلالية، ليس فقط بسبب قدراتهما النووية، ولكن أيضًا بسبب رؤيتهما الاستراتيجية المتكاملة". كما يؤكد أن "بولندا، التي تمتلك الآن أكبر جيش في أوروبا، وألمانيا، التي تمتلك ثقلًا سياسيًا كبيرًا، ستكونان أيضًا عنصرين حاسمين في هذه المعادلة".
اليوم، تنظر الدول الأربع، والعديد من الدول الأخرى في أوروبا، إلى الحرب في أوكرانيا وإمكانية المزيد من العمليات الروسية باعتبارها التهديد الأكثر إلحاحًا للأمن القاري. ولكن هناك قلقا أساسيا آخر يغذيه احتضان إدارة ترامب للحركات الشعبوية القومية اليمينية التي تحدت فكرة الاتحاد الأوروبي ذاتها.
إلى جانب التحديات المالية والعسكرية، تواجه أوروبا انقسامات سياسية عميقة، زاد من تعقيدها صعود التيارات اليمينية الشعبوية، التي يتبنى بعضها مواقف أكثر تقاربًا مع ترامب. فقد أبدى مسؤولون في الإدارة الأمريكية الجديدة دعمهم لأحزاب مثل "التجمع الوطني" في فرنسا و"البديل من أجل ألمانيا، وهي قوى سياسية صاعدة تهدد بمزيد من الانقسامات داخل أوروبا.
ويقول بيسكوب: "لدينا بالفعل أحزاب يمينية متطرفة في الحكومات الأوروبية، مما يجعل من الصعب تحقيق إجماع داخل الاتحاد الأوروبي، وإذا تحالفت هذه القوى مع إدارة ترامب، فقد يصبح الوضع أكثر تعقيدًا."
بينما تواصل الدول الأوروبية تعزيز قدراتها الدفاعية، يظل السؤال الرئيسي: هل ستؤدي تسوية أمريكية روسية بشأن أوكرانيا إلى الإضرار بالمصالح الأمنية الأوروبية؟ وإلى أي مدى ستستمر العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة كشراكة استراتيجية، أم أنها ستتجه نحو مرحلة جديدة من التوتر والتباعد؟
يختتم مولني بقوله: "السؤال المطروح اليوم ليس فقط عن كيفية رد الفعل الأوروبي، بل عن مستقبل العلاقة بين أوروبا وأمريكا: هل ستظل شراكة أم ستتحول إلى مواجهة؟"