البرهان وظف خلافات المدنيين وانقسام الشارع للسيطرة على السلطة.
انقلاب متأخر للجيش يحسم مستقبل الفترة الانتقالية بالسودان
لم يكن قرار الجيش السوداني وضعَ يده على السلطة مجددا أمرا مفاجئا في ظل الخلافات الحادة مع المكون المدني حول الأحقية في قيادة السلطة في وقت يعتبر فيه مراقبون أن الانقلاب تأخرا كثيرا وأن انفجار العلاقة بين الطرفين كان متوقعا بسبب تناقض الأهداف والأجندات.
وقال المراقبون إن المكونين كانا يخططان بشكل منفصل للاستفادة من الظروف المحلية والخارجية من أجل وضع اليد على السلطة بالتزامن مع نهاية المرحلة الانتقالية، وأن كل طرف يعتبر نفسه صاحب الفضل في إسقاط النظام السابق ويجهّز للتخلص من شريكه الانتقالي بافتعال أزمات أو المساهمة في تغذية الخلافات بهدف إفشال الاتفاقيات التي تم توقيعها مع المجموعات العرقية والعسكرية، واتهام الآخر بأنه سبب الفشل.
وحسم الجيش السوداني صراعات وانقسامات الفترة الانتقالية بإعلان قائده الفريق أول عبدالفتاح البرهان جملة من القرارات الاستثنائية الاثنين، أنهت الشراكة مع المكون المدني وفتحت الطريق أمام بدء مرحلة لانتقال سياسي جديد.
وجاءت الخطوة وسط حالة من التشظي خيمت على القوى المدنية لصالح ترسيخ نفوذ العسكريين على رأس السلطة انتظارًا لما ستؤول إليه الأوضاع في الشارع.
وأعلن البرهان في خطاب له الاثنين فرض حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء وإعفاء كافة ولاة الولايات (محافظي المحافظات) وتجميد لجنة إزالة التمكين وتعليق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية المتعلقة بتنظيم العلاقة بين المدنيين والعسكريين وهياكلها.
واختلفت تفسيرات القوى السياسية حول الإجراءات، إذ وصفها البعض بأنها “انقلاب” على الحكم الديمقراطي ودعا إلى اتخاذ كافة السبل السلمية للعودة إلى الإطار الديمقراطي، ونظرت إليها مكونات قبلية ودوائر شعبية محسوبة على المكون العسكري على أنها “خطوات لتصحيح المسار السياسي”.
وعزف البرهان على وتر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة لتمرير إجراءاته، معلنًا تشكيل حكومة كفاءات وطنية تتولى تسيير الأمور، وقدم تطمينات للمجتمع الدولي بإجراء الانتخابات المقررة في يوليو من عام 2023، وخطب ود القوى السياسية المختلفة مع تحالف الحرية والتغيير بإعلانه تشكيل مجلس تشريعي يضم كافة مكونات الشباب والثورة.
واستبقت الأجهزة الأمنية القرارات باعتقال رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وزوجته من مقر إقامته في الخرطوم فجر الاثنين، واعتقال عدد من أعضاء مجلسي السيادة والوزراء، من بينهم محمد الفكي عضو مجلس السيادة وخالد عمر وزير شؤون مجلس الوزراء وياسر عرمان المستشار السياسي لحمدوك وإبراهيم الشيخ وزير الصناعة وفيصل محمد صالح مستشار رئيس الوزراء الإعلامي.
وجاء تحرك البرهان بعد ساعات من انتهاء المحادثات التي أجراها المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فليتمان، وهو ما بعث بإشارات أوحت بأنه يدعم الطرف الأقوى على الأرض (الجيش) وأن تفتت القوى المدنية قد يصب في صالح البحث عن طرف لديه القدرة على ضبط الأوضاع وإنهاء حالة الارتباك السياسية والأمنية.
وأعلنت واشنطن أنها تشعر “بقلق عميق” من التقارير التي تفيد بسيطرة الجيش على السلطة في السودان، وهو ما يتعارض مع إرادة شعب البلاد.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير الاثنين “نرفض إجراءات الجيش وندعو إلى الإفراج الفوري عن رئيس الوزراء والآخرين الذين وضعوا قيد الإقامة الجبرية”.
وأكد الخبير الاستراتيجي الرشيد محمد إبراهيم أن انقسام الشارع وتفتت قوى الحرية والتغيير دفعا المكون العسكري إلى اتخاذ قرارات استثنائية بالتزامن مع إجراءات أمنية صارمة ستكون أكثر حسمًا في تفريق المظاهرات التي اندلعت.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “الشارع سيمتص صدمة القرارات بعد أن عانى من ويلات الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية، ووضْع توقيتات زمنية محددة لتشكيل المجلس التشريعي والحكومة الجديدة في غضون الشهر المقبل سيسهم في تهدئة الأجواء وعودة مؤسسات الدولة إلى العمل بصورة طبيعية”.
وأوضح الرشيد -وهو مقرب من دوائر المكون العسكري- أن المسار الديمقراطي محفوظ في السودان وأن عددا من القوى السياسية المنشقة عن قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة لديها مواقف مؤيدة للقرارات الأخيرة وستقود عملية التغيير الجديدة لحين الوصول إلى الانتخابات، ووصف الاعتقالات التي طالت رموز المكون بـ”الطبيعية” في انتظار أن تتم إعادة الانضباط في الشارع.
ويقول سياسيون إن قدرة الجيش على تمرير قراراته محل شكوك عديدة لأن المظاهرات التي دعمها أعضاء المجلس العسكري واعتصام القصر لم يحققا الشعبية المطلوبة بين المواطنين وجرى النظر إليهما كمحاولة من فلول البشير للانقضاض على السلطة، وذلك على عكس المليونية التي انطلقت الخميس الماضي وشهدت انصهارًا بين قوى سياسية طالما كانت خلافاتها السابقة سببًا في تجميد مسارات المرحلة الانتقالية.
وهذه المكونات تشترك في عدة نقاط قد تلتقي على أساسها رافعة شعار “لا للانقلاب العسكري” في مواجهة تحركات من تصفهم بـ”اللجنة الأمنية” التابعة للنظام السابق.
ودعت قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين والحزب الشيوعي، في بيانات منفصلة، إلى العصيان المدني ردا على ما وصفته بـ”الانقلاب”، وكسر حالة الطوارئ بالمزيد من الحشود. واعتبرت ما قام به البرهان مقدمة لجملة من الإجراءات التصعيدية، و”ستزيد ضراوة المقاومة ووحدة الشارع بعدما زالت كل أوهام الشراكة وسقطت ورقة التوت”.
وتسبب انقطاع الإنترنت وشبكات الاتصال في غالبية مناطق السودان في حالة من التكتّم على طبيعة التحركات المستقبلية للقوى السياسية، ولم تتمكن قوى عديدة من إعلان مواقفها، ما أرجعه متابعون إلى صعوبات الاتصال وعدم حسم بعض المواقف انتظارا لكلمة الشارع التي ستكون حاسمة.
واعتبر آدم والي -عضو الأمانة السياسية بحركة جيش تحرير السودان، جناح مني أركو مناوي- خطاب البرهان “انقلابا على الشرعية الثورية والتحول الديمقراطي، وخطوة العسكريين لن تكون الأخيرة في مسيرة التحول إلى الحكم المدني والشارع ستكون له كلمته”.
ولفت آدم والي في تصريح لـ”العرب” إلى أن “موقف حركة جيش تحرير السودان الداعم لاعتصام القصر هدف إلى إنهاء سيطرة أربعة أحزاب على قرارات القوى المدنية المكونة التي تشمل أكثر من 80 حزبًا، والوضع نفسه بالنسبة إلى لجنة إزالة التمكين التي استبدلت تمكين الإسلاميين بتمكين آخر على مستوى الأحزاب الأربعة، لكن الحركة لم تدع إطلاقا إلى الانقلاب على الشرعية الثورية”.
وأشار والي إلى أن قدرة القوى السياسية والثورية على إنهاء الانقسامات والاتحاد مع الشارع حاسمة في تمكين العسكريين من تمرير قراراتهم، والتوقع الأقرب أن ينجح الشارع في فرض كلمته بالتزامن مع انخفاض شعبية المكون العسكري بوجه عام، في حين أنه لا يُجْمِع على رؤية واحدة، وهناك شواهد تشي بأن الإجراءات الأخيرة لا تحظى برضاء تام في الجيش.