اخبار الإقليم والعالم
أزمة مياه في لبنان... المناخ يهدد، لكن السياسات الفاشلة تجهز على ما تبقى
يشهد لبنان واحدة من أسوأ أزماته البيئية في تاريخه الحديث، مع تسجيل منسوب المياه في خزان بحيرة القرعون، أكبر خزانات البلاد على نهر الليطاني، انخفاضا حادا إلى أدنى مستوياته، نتيجة جفاف استثنائي يتزامن مع تدهور بيئي مزمن وسوء في إدارة الموارد.
وهذا الانخفاض الحاد، الذي وصفه خبراء بأنه الأسوأ منذ عقود، لا يُعد مجرد ظاهرة طبيعية عابرة، بل هو مؤشر خطير على اختلال التوازن البيئي والمائي في بلد يعاني أصلا من هشاشة البنية التحتية، وضغوط سياسية واقتصادية معقدة.
ووفقا للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، لم تتجاوز التدفقات المائية في موسم الأمطار لعام 2025 حاجز الـ45 مليون متر مكعب، مقارنة بمتوسط سنوي معتاد يبلغ 350 مليونا، وهو تراجع غير مسبوق. وحتى بالمقارنة مع العام الماضي، الذي كان ضعيفا مناخيا، يبدو الانهيار صارخا، إذ تم تسجيل حينها 230 مليون متر مكعب.
والنتيجة المباشرة ليست فقط في جفاف الحوض وظهور تشققات أرضية، بل أيضا في توقف محطات الطاقة الكهرومائية المرتبطة بنهر الليطاني، ما عمّق أزمة الكهرباء وقلّص قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على تأمين التغذية حتى في الحد الأدنى.
والأخطر من ذلك، أن كمية المياه الموجودة حاليا في بحيرة القرعون لا تتعدى 61 مليون متر مكعب، وهي ملوثة بشكل يجعلها غير صالحة للاستخدام البشري أو الزراعي، ما يفتح بابا كبيرا أمام أزمة صحية وبيئية في حال لم تتم معالجتها جذريا. ويرى مراقبون أن ما يمر به لبنان ليس مجرد موسم جفاف طبيعي، بل نتاج مشترك للتغير المناخي العالمي وسوء الإدارة الداخلية للمياه.
◙ أزمة نهر الليطاني وخزان القرعون ليست أزمة طبيعة فقط بل هي أزمة سياسات مزمنة ونتاج سنوات من الإهمال والاعتماد المفرط على موارد مائية محدودة
وبحسب دراسة صادرة عن المصلحة الوطنية، ساهم ارتفاع درجات الحرارة وتغيّر أنماط الطقس في زيادة فقدان رطوبة التربة وتقليل تغذية المياه الجوفية، ما يعني أن المشكلة هيكلية وليست ظرفية. لكن إلى جانب العامل المناخي، هناك عامل بشري أكثر تعقيدا: الإفراط في استهلاك المياه الجوفية، ضعف الرقابة على استخدام الموارد، وغياب إدارة مستدامة للطلب على المياه، سواء في الزراعة أو الاستخدام المنزلي.
وفي سهل البقاع، الذي لطالما كان يُعد “سلّة الغذاء” اللبنانية، يشعر المزارعون بثقل الأزمة بشكل مباشر. ويقول المزارع صفا عيسى “لم نشهد جفافا مثل هذا العام. مضت عشرة سنوات لم نر فيها الثلج”. ويعني تراجع الثلوج وغياب الأمطار ببساطة موت المحاصيل. ومع تقنين الكهرباء الضرورية لتشغيل مضخات الري، باتت ساعات الري لا تكفي لتأمين الحد الأدنى من حاجات الزراعة.
ويقول فايز عميص، وهو مزارع آخر، “نسقي محاصيلنا 3 ساعات ونتوقف ثلاث ساعات أخرى”، في إشارة إلى الانقطاعات المتكررة للكهرباء. ورغم وضوح حجم الأزمة، فإن الاستجابة الحكومية تبدو بطيئة ومحدودة حتى اللحظة. وتحدثت سوزي حويك، مستشارة وزارة الطاقة والمياه، عن إطلاق حملة توعية خلال عشرة أيام لترشيد الاستهلاك، لكنها اعترفت بأن إدارة الطلب أصبحت “أهم الأولويات”.
لكن في ظل هذا الانهيار البنيوي، يُطرح سؤال جوهري: هل تكفي حملات التوعية لمواجهة أزمة بهذا الحجم أم أن الأمر يحتاج إلى تحول جذري في السياسات المائية والزراعية والطاقة، بالإضافة إلى استثمارات عاجلة في البنية التحتية والرقابة على الاستخدام العشوائي؟
ويرى محللون أن أزمة نهر الليطاني وخزان القرعون ليست أزمة طبيعة فقط، بل هي أزمة سياسات مزمنة. ويشير المحللون إلى أن ما نراه اليوم هو نتاج سنوات من الإهمال، والاعتماد المفرط على موارد مائية محدودة دون إستراتيجية وطنية واضحة لإدارتها أو حمايتها.
ولا يحتمل لبنان، الذي يعيش تحت ضغط أزمات متلاحقة، فقدان مصدر مائي بهذا الحجم، في وقت تتسارع فيه تداعيات تغير المناخ، وترتفع وتيرة الهجرة من الريف إلى المدن. ويخلص المحللون إلى أن البلاد باتت أمام مفترق طرق حاسم: إما التحرك العاجل وإعادة رسم سياسة مائية وطنية شاملة، أو مواجهة مستقبل من الجفاف والعطش والانهيار الزراعي.