الجيش الأميركي لحلفائه في أفريقيا: اعتمدوا على أنفسكم
تشهد السياسة العسكرية الأميركية في أفريقيا تحولا بعيدا عن الخطاب التقليدي الذي ركز على تعزيز “الحكم الرشيد” ومعالجة الأسباب الجذرية للتمرد، نحو تركيز أكبر على تشجيع الحلفاء الأفارقة على الاعتماد على أنفسهم وتحمل مسؤوليات أمنية أكبر.
وتجلى هذا التغيير بشكل بارز خلال مناورات “الأسد الأفريقي” السنوية، التي تُعد أكبر تدريبات مشتركة للقوات الأميركية في القارة، حيث أكد الجنرال مايكل لانجلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، على ضرورة رفع مستوى الشركاء الأفارقة إلى مرحلة العمليات المستقلة، مشيرا إلى أن تقاسم الأعباء أصبح من أولويات وزارة الدفاع الأميركية في ظل التحديات الأمنية المتزايدة.
وعلى مدار أربعة أسابيع، شاركت أكثر من 40 دولة في تدريبات شملت استخدام تقنيات متقدمة مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ الموجهة بالأقمار الصناعية، فضلا عن محاكاة القتال في أماكن ضيقة، ما يعكس تركيزا أكبر على تعزيز القدرات العملياتية المباشرة بدلا من النهج الشمولي الذي كان يدمج بين الدفاع والتنمية والدبلوماسية.
التحول في الخطاب العسكري الأميركي يتزامن مع توجه أوسع لإعادة توزيع الموارد العسكرية لمواجهة تحديات أكثر إلحاحا في آسيا وأوروبا
ويتماشى هذا التوجه الجديد مع سياسة الإدارة الأميركية الحالية التي تسعى لبناء قوة عسكرية أكثر مرونة وقدرة على المواجهة، خاصة في ظل المنافسة المتصاعدة مع قوى دولية مثل الصين وروسيا التي توسع نفوذها في أفريقيا من خلال برامج تدريب عسكرية واسعة واستثمارات أمنية مباشرة، الأمر الذي يجعل الولايات المتحدة تعيد تقييم دورها التقليدي في القارة.
ورغم إنفاق مئات الملايين من الدولارات على المساعدات الأمنية ونشر نحو 6500 جندي عبر قيادة القوات الأميركية في أفريقيا، إلا أن الواقع على الأرض لا يزال يشير إلى ضعف جاهزية العديد من الجيوش الأفريقية، لاسيما في مواجهة الجماعات الإرهابية مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، التي باتت تنشط بشكل متزايد في مناطق عدة بالقارة، خاصة في الساحل والصومال، حيث تشهد تلك المناطق مستويات مرتفعة من العنف والاضطرابات.
ورغم الدعم العسكري، يعترف المسؤولون الأميركيون بصعوبة الحفاظ على الأمن والاستقرار من خلال الاعتماد فقط على التدخلات الخارجية، ما دفع إلى تأكيد ضرورة تمكين الشركاء المحليين لقيادة جهودهم الأمنية.
ويعكس التحول في الخطاب الأميركي الذي كان يروج سابقا لنهج “الحكومة الشاملة” – والذي يعتبر الحوكمة والتنمية ركائز أساسية لتحقيق الأمن والاستقرار – إلى خطاب يركز على الاستقلالية وتقاسم المسؤوليات، واقعًا جديدا يفرضه تعقيد المشهد الجيوسياسي وقيود الموازنات العسكرية وتنامي دور المنافسين الإقليميين.
وبينما يرى بعض المسؤولين العسكريين أن جهود التنمية قد حققت نجاحات في أماكن محددة مثل كوت ديفوار، إلا أن هذه النجاحات لم ترتق لتشكل نموذجا عاما يعتمد عليه في مواجهة التحديات الأمنية الكبرى في القارة.
رغم إنفاق مئات الملايين من الدولارات على المساعدات الأمنية، إلا أن الواقع على الأرض لا يزال يشير إلى ضعف جاهزية العديد من الجيوش الأفريقية
ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة تعيد ترتيب أولوياتها الإستراتيجية في أفريقيا، متجهة نحو تقليص دورها المباشر، مع إبقاء بعض الإصلاحات الأمنية مثل تقليل مدة التجنيس المخصص للاندماج وفتح الباب أمام ازدياد مشاركة القوات المحلية، مع استمرار منافسة النفوذ مع القوى الدولية الأخرى.
ورغم أن هذا التحول يهدف إلى تعزيز قدرة الحلفاء الأفارقة على إدارة ملفات الأمن بأنفسهم، إلا أنه يحمل في طياته مخاطر كبيرة، لاسيما في ظل عدم جاهزية بعض القوات المحلية وتنامي التهديدات الإرهابية التي يمكن أن تتسع لتشمل مناطق جديدة، ما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الأمنية في القارة.
وتعود جذور الوجود العسكري الأميركي في القارة إلى تأسيس القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)عام 2007، كرد فعل على تنامي التهديدات الإرهابية، وتزايد المصالح الأميركية في القارة من حيث الأمن والطاقة. ومنذ ذلك الحين، اعتمدت واشنطن على مزيج من التدريب، والمساعدات العسكرية، والتعاون الاستخباراتي، دون التورط في عمليات برية واسعة النطاق.
ويتزامن التحول في الخطاب العسكري الأميركي مع توجه أوسع لإعادة توزيع الموارد العسكرية لمواجهة تحديات أكثر إلحاحًا في آسيا وأوروبا. فالتوتر مع الصين حول تايوان وبحر الصين الجنوبي، والعودة إلى سباق التسلح مع روسيا، إضافة إلى الأزمات الداخلية المتعلقة بالإنفاق الدفاعي، كلها عوامل دفعت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى تقليص طموحاته في مناطق تعتبر أقل أولوية مثل أفريقيا.
ويشير خبراء أن ترتيب الولايات المتحدة للتحالفات الإقليمية قد يدفع بعض الدول إلى البحث عن بدائل أمنية أخرى مثل روسيا والصين. لكن في المقابل قد يؤدي إلى تحفيز مبادرات تعاون أمني أفريقي-أفريقي، كما هو الحال مع “القوة الأفريقية المشتركة لمجموعة الساحل”، رغم ضعف أدائها حتى الآن.
ومع أن واشنطن تسعى لتقليص دورها المباشر، فإن تراجعها قد يترك فراغا يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية، خاصة في المناطق المتضررة من النزاعات مثل جنوب السودان، شمال نيجيريا، الصومال، وبوركينا فاسو. إذ تبقى قدرة الحكومات على التعامل مع التهديدات الداخلية محدودة دون دعم خارجي، وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من النزوح، الفقر، وتوسع الجماعات المسلحة.