جماعة الإخوان تغسل سمعتها على حساب الشرع
لا يوجد شيء اسمه بيان مكذوب في ما يتعلق تحديدًا بجماعة الإخوان، فحتى لو صدر دون تحديد هُوية أو جهة معلومة، فله هدف ورسائل يبعثها في اتجاهات محددة. إذا طبقنا هذه القاعدة البديهية على ما جرى خلال الأيام الماضية التي شهدت تطورات لافتة في فضاء تيار ما يُعرف بالإسلام السياسي من سوريا إلى مصر والولايات المتحدة وفرنسا، ومن الجهاديين الذين صاروا (سياسيين)، لاكتشفنا أن بيان الإخوان في مصر بشأن حل الجماعة ليس مَكْذوبًا إنما مجرد مناورة للالتفاف على الأحداث وتوظيفها لمصلحة التنظيم المَأزُوم.
لنقرأ البيان مع اسْتكشاف ما وَاكَبه من متغيرات بالمنطقة؛ فقد صدر باسم الإخوان، وتحدث مصالحة بعد يوم واحد من لقاء بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، برعاية تركية – سعودية. كما أعقبته مباشرة التصريحات المثيرة من قبل السفير الأميركي الأسبق في سوريا روبرت فورد خلال محاضرة بمقر مجلس العلاقات الخارجية بمدينة بالتيمور، يؤكد خلالها أنه أسهم في تأهيل أحمد الشرع من (جهادي) ليصبح رقمًا في معادلة السياسة للدولة السورية.
أتى تعويم جناح جهادي تابع سابقًا للقاعدة وتمكينه من السلطة في سوريا برعاية دولية وإشراف إقليمي متقدم، لينكأ جراح جماعة الإخوان التي كانت هي أصل مشروع تمكين الإسلام السياسي، وكان القاعدة مجرد فصيل، قبل أن تفقد كلَ شيء بلا أمل في عودة وسط إحْباط أتباعها.
تزامنًا مع الرعاية الدولية والإقليمية لفصيل جهادي يُواجه أزمات في سوريا في سبيل تثبيت حكمه، صدر البيان مجهُول الهُوية يحمل توقيع الإخوان، ذلك الذي وُصف بالمكذوب والمُفبرِك، لكنه بطبيعة الحال مَصنُوع بهذا الشكل لتحقيق هدف محدد. تستثمر جماعة الإخوان التطورات الإقليمية التي طَوَت صفحتها وهمشتها على الرغم من كونها أمّ ما يُعرف بتيار الإسلام السياسي، مقابل تصعيد فصائل جهادية في سوريا والتمهيد لتصعيد وتمكين أخرى في الإقليم.
بعد رُدود الأفعال السَاخِطة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في ضوء لقاء الشرع – ترامب، حيث صُوّر الرئيس السُوري الجديد كنموذج للحاكم المتخاذل الذي باع مبادئه مقابل نيل رضا واشنطن عنه والاعتراف بحكمه، تعمد جماعة الإخوان إلى الظهور في هذا التوقيت على النقيض من هذا الفصيل بعرضها حل التنظيم وترك السياسة والتعاون مع مصر والدول الوطنية في مواجهة التحديات.
◙ البيان الصادر باسم جماعة الإخوان يركز على مخاطبة الجمهور العربي والمصري العريض الناقم عن تيار ما يُعرف الآن بـ"الجهادية السياسية"
عانت جماعة الإخوان في مرحلة ما عُرف بالربيع العربي وما بعدها من لصق هذه التهمة بها خاصة مع الرعاية التي حَظِيت بها من قبل إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما ومن قِبل قوى إقليمية مثل تركيا وقطر. وبعد أن فقدت جماعة الإخوان الأمل في العودة إلى مشروعها في السلطة تحاول المزايدة على بَديلِها، المتمثل في فروع القاعدة المُعَاد تسميتها وتدجينُها لتتواءم مع الشروط والمطالب الأميركية والإقليمية.
البيان الصادر باسم جماعة الإخوان، لكن غير معروف الجهة المسؤولة عنه، يركز في المقام الأول على مخاطبة الجمهور العربي والمصري العريض الناقم عن تيار ما يُعرف الآن بـ”الجهادية السياسية” مُتمثلًا في فروع القاعدة المحلية خاصة فرع سوريا المهيمن على السلطة في دمشق، على خلفية اتهامه بالخذلان والخيانة وبيع الثوابت والتخلي عن مساحات إستراتيجية من الأرض في الجولان والجنوب السوري، مقابل صبغ الشرعية الدولية والإقليمية على حكمه.
عرض البيان حل الجماعة لنفسها داخل مصر و”التوقف عن ممارسة أيّ نشاط سياسي والتفرغ للعمل الدعوي والتربوي تغليبًا للمصلحة العامة ولكي يتسنى للقائمين على الحكم مواجهة التحديات،” مقابل إطلاق سراح من وصفهم البيان بـ”المعتقلين السياسيين”
أتى في مقدمة دوافع الثورة على الإخوان وعزلها عن السلطة وتاليًا رفض عودتها إلى المشهد مجددًا في مصر انخراطها في مشروع يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية على حساب الثوابت العربية التقليدية المرتبطة بقضية فلسطين، علاوة على ما جرى من حديث عن عرضها الموافقة على تسليم جزء من سيناء ليكون وطنًا بديلًا للفلسطينيين قبل أن يُقصيها المصريون على خلفية اتهامات بالخيانة الوطنية والفشل الإداري والسياسي.
بعد التمكين دوليًا بشكل رسمي لما عُرف سابقا بهيئة تحرير الشام التي تحوّرت عن جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة، عقب لقاء الشرع مع ترامب، ترغب جماعة الإخوان في غسْل سُمعتها السيئة السابقة مُصوّرَة نفسها بالبيان الأخيرة مُنحَازة للخيارات الوطنية في مواجهة التحديات الدولية والإقليمية.
فشلت جماعة الإخوان على مدار سنوات طويلة منذ عزلها عن السلطة في إعادة تعويم نفسها في المشهد المحلي والإقليمي في أيّ صيغة كانت؛ إما بالإمْعَان في الانخراط بالمشاريع الخارجية وخطط التفكيك والتقسيم على حساب الثوابت المصرية والعربية أو بمواصلة الضغط والتحريض وبث الشائعات والابتزاز.
وجاء البيان الأخير ليَطْرُق زاوية مختلفة هذه المرة، محاولًا تصوير الجماعة في هيئة فصيل وطني يُقدّم تنازلات للحفاظ على المصلحة العامة للوطن، وعارضًا التعاون مع النظام السياسي القائم في مواجهة التحديات التي تواجهه، وهي حالة جديدة ومختلفة تمامًا عن حالة الإخوان المعروفة.
أعيت جماعة الإخوان الحِيَل بعد أن استنفدت كل الوسائل والأوراق بداية من محاولات استعادة سلطتها التي جرى عزلها عنها مرورًا باستخدام العنف وصولًا إلى التحريض على التمرد الشعبي والمظاهرات وبث الشائعات بهدف إرباك المسار الحالي وممارسة الضغط على السلطة لتقبل التفاوض وإجراء تسوية معها.
تعمد الجماعة الآن إما بقرار غير مُعلن من قادتها أو بمبادرة ذاتية من مجموعة داخلها إلى القيام بعمل يلفت الأنظار إليها ويضع اسمها ضمن عناوين الأخبار اليومية بهدف حلحلة الجمود الذي تعاني منه. وتحاول الجماعة بشكل مُناوِر الدفع باتجاه إجراء نقاش داخلي يحسم صراعاتها ويبلور رؤية موحدة تواجه بها التحدي غير المسبوق الذي تواجهه، وإثارتها للنقاش العام حولها دون أن تتحمل مسؤولية الفشل إذا ما جرى تجاهل البيان، من خلال طرحه دون تَبَنّ له من جهة محددة.
◙ جماعة الإخوان فشلت على مدار سنوات طويلة منذ عزلها عن السلطة في إعادة تعويم نفسها في المشهد المحلي والإقليمي
انتشر البيان الذي يختلف في لغته ومصطلحاته المستخدمة عن بيانات جماعة الإخوان المعتادة على وسائل التواصل الاجتماعي، متحدثًا عن الاستعداد لحل التنظيم بشكل رسمي، والتفرغ للعمل الدعوي. يكمن التناقض في أن حل التنظيم يُفضي بشكل تلقائي لإنهاء مختلف مظاهر النشاطات حتى الدعوية والمجتمعية وليس فحسب السياسية، وهو ما ينْطَوي على ارتباك تنظيمي مضاعف.
بدت الجماعة كأنها تحاول التعلق بقشة لحل أزمتها المُستعصية، بالنظر إلى أن عرض حل التنظيم هو الجديد في عروض الجماعة حيث لا تقبل الدولة التعامل مع تنظيمات، وفي الوقت نفسه يلمّح لاستمرار العمل الدعوي وهو ما لن يتحقق إلا باستمرار وجود التنظيم بشكل أو بآخر.
تحدث البيان عن حل الجماعة في الداخل المصري، وهذا يدخل ضمن تعريف المُعرّف أصلًا وتحصيل الحاصل؛ لأن التنظيم في عداد المحلول والمحظور نشاطه في مصر، بينما إذا كانت هناك مصداقية فإن الصياغة المُفترضة تتطلب الإعلان عن حل للتنظيم الدولي للإخوان بكل فروعه وأجنحته بكل مكان في العالم، وعدم الحديث عن مطالب للجماعة، فمن تعتبرهم هي معتقلين من قادتها هم مدانون في قضايا من قِبل القضاء لا يمكن المُسَاومة بشأنهم.
وفي اعتراف مُفترض غير مسبوق من قبل جماعة الإخوان بالنظام الحالي قالت الجماعة في بيانها (مجهول الهوية) إنها تُعلن “الابتعاد عن العمل السياسي والإعلامي في الداخل والخارج، وترك الساحة السياسية بكل جوانبها للنظام القائم، من دون معارضة أو تشويش، ليتحمل مسؤوليته في إدارة شؤون البلاد، وتحقيق التنمية واستعادة الاستقرار.”
لم تصدق النخب على مختلف انتماءاتها الإخوان في مزاعم تحولها إلى جماعة دعوية سلمية في أيّ مرحلة من المراحل، وكررت نفس الثيمة قبل أن تعود مجددًا إلى السياسة مقرونة بالعنف دفاعًا عن سلطة أو فرض لأمر واقع.
تشعر الجماعة بأنها من الصعب أن تغير هذا الانطباع حِيَالها بناءً على تراكم الخبرات بشأن خدعها ومناوراتها السابقة، فأتى البيان الأخير مليئًا بالتعهدات والعبارات الجَالِبة للعطف والشفقة، ومضاعفة جرعة الحديث عن “مصلحة مصر” وتغليب “المصالحة على الصدام والمواجهة.”