استئناف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت يمنح لبنان أملا جديدا
بعد مرور ما يقرب من خمس سنوات على الانفجار المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت، والذي أودى بحياة نحو 220 شخصا وجرح نحو 7000 آخرين، ودمر جزءا كبيرا من المدينة، بدأت التحقيقات القضائية اللبنانية المتوقفة منذ فترة طويلة في استعادة نشاطها.
واستأنف المحقق الرئيسي القاضي طارق بيطار الإجراءات بشكل غير متوقع، مستدعيا عدة أشخاص للاستجواب في محاولة متجددة لتحقيق العدالة لأمة عانت طويلا من الإفلات من العقاب.
وتشير التقارير إلى أنه مستعد لإصدار لائحة اتهامه في أغسطس المقبل، وهو الذكرى الخامسة للانفجار. وقد تُحفز مثل هذه الأفعال النادرة النظام القضائي المشلول في البلاد.
وكان انفجار الرابع من أغسطس 2020، الناجم عن تفجير مئات الأطنان من نترات الأمونيوم المخزنة بشكل سيء، أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ. فقد دمر منطقة الميناء، وألحق أضرارا بنصف المدينة، وأرسل موجات صدمة تتجاوز حدود لبنان.
على الرغم من حجم الكارثة، واجهت جهود التحقيق في الحادث وملاحقة المسؤولين عنه عوائق متكررة، لاسيما من الطبقة السياسية النافذة في لبنان.
استئناف التحقيق في الحادث ممكن جزئيا بفضل انتخاب الرئيس جوزيف عون وحكومة نواف سلام الإصلاحية
وترى باتريشيا كرم، الزميلة غير المقيمة في المعهد العربي لواشنطن دي.سي، أن استئناف التحقيق في الحادث، والذي يُعزى جزئيا إلى انتخاب الرئيس جوزيف عون وتشكيل حكومة رئيس الوزراء نواف سلام الإصلاحية، يُمثل على الأرجح لحظة فارقة في مسار المساءلة، ليس فقط عن الإهمال الذي تسبب في الانفجار، بل أيضا عن الفساد المنهجي الذي مكّنه. فقد تفشى التهريب والفوضى في مرفأ بيروت. وتُعد الطبقة السياسية بأكملها، بما في ذلك حزب الله الذي سيطر على الميناء واستخدمه لأغراضه الخاصة، متورطة في هذا الفساد.
ولأن الانفجار كان مثالا على اختلالات لبنان، من بينها استيلاء ميليشيات المافيا على الدولة والفساد المستشري الذي تفاقم بسبب ضعف القضاء وتعرضه للاختراق، فإن متابعة القضية قد لا تؤدي فقط إلى تحقيق العدالة للضحايا، بل قد تؤدي أيضا إلى مساءلة أوسع نطاقا لطبقة سياسية مهملة كانت مدينة بالولاء لحزب الله. كما ستكون قضية اختبار لقدرة القضاء على إثبات، على الرغم من سنوات من التجاهل والاستنزاف، أنه يحتفظ بنواة صلبة يمكن استخدامها لإعادة بناء الثقة في المؤسسات اللبنانية.
وبالتزامن مع ذلك، اتخذت الحكومة بعض الخطوات الواعدة لتنشيط القضاء، بما في ذلك موافقتها على مشروع قانون بشأن استقلال القضاء لتعزيز استقلاليته وشفافيته.
وعلى الرغم من أن القانون لا يزال قيد المراجعة البرلمانية، فإن هذه الجهود تبشر بالخير لإصلاح القضاء، خاصة إذا كانت مصحوبة بجهود جادة إضافية لتعزيز النظام القانوني في البلاد.
قضية انفجار بيروت
يتمحور محور القضية حول القاضي طارق بيطار، الذي تولى منصبه في فبراير 2021 بعد إقالة سلفه، القاضي فادي صوان، بسبب ضغوط سياسية.
وسعى القاضي بيطار إلى محاسبة مسؤولين رفيعي المستوى استنادا إلى وثائق موسعة تشير إلى أن العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية والإدارية كانت على علم بالمواد الكيميائية الخطرة في المرفأ لسنوات.
وسرعان ما قوبلت جهوده بمقاومة شرسة، شملت دعاوى قضائية رفعها سياسيون، ومطالبات بالحصانة البرلمانية، وفي أواخر عام 2021، تجميدا قضائيا كاملا. وتوقف التحقيق لما يقرب من عامين.
وازداد الغضب الشعبي مع مطالبة عائلات الضحايا ومنظمات المجتمع المدني بالشفافية والعدالة. ونظموا احتجاجات واعتصامات، ووجهوا نداءات دولية، ودعوا إلى تحقيق دولي مستقل في ضوء فشل القضاء اللبناني في العمل بمعزل عن التدخلات السياسية.
وتعهد رئيس الوزراء سلام بإعطاء الأولوية لتحقيق العدالة لضحايا انفجار المرفأ. وبعد يومين فقط على تعيين سلام في يناير 2025، استأنف بيطار عمله بهدوء.
وعلى الرغم من أن التفاصيل لا تزال سرية، تؤكد التقارير أنه وجه اتهامات جديدة ضد عدة أفراد، بمن فيهم مسؤولون أمنيون كبار يُفترض أنهم على صلة بحزب الله المدعوم من إيران. كما تستهدف التهم مشتبهين سبقت تسميتهم، مثل وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، الذي استُجوب في الخامس والعشرين من أبريل، ورئيس الوزراء السابق حسان دياب، المقرر مثوله أمام المحكمة في مايو، وقادة سياسيين آخرين، بمن فيهم قضاة متورطون في القضية.
القضاء اللبناني
لطالما شاب النظام القضائي اللبناني الإفلات المؤسسي من العقاب والتدخل السياسي. وتتأثر التعيينات في المناصب القضائية الرئيسية بشكل كبير بالنظام القائم على المحسوبية الطائفية، مما يجعل القضاة عرضة للضغوط السياسية التي غالبا ما تُترجم إلى عرقلة للعدالة وتعطيل للتحقيقات الجنائية.
وأصبحت عرقلة تحقيق انفجار المرفأ رمزا لهذه العيوب النظامية، ويُعد التحقيق اختبارا حاسما لمصداقية المؤسسات القضائية اللبنانية.
ومنذ بدايتها، تم عزل قضاة التحقيق على التوالي، وتمت حماية الوزراء المتورطين من خلال الحصانة، وارتُكبت انتهاكات للإجراءات القانونية الواجبة، واتخذ المدعي العام إجراءات ضارة، والذي أطلق سراح جميع المعتقلين في القضية بشكل مثير للجدل.
وقد تعثر التحقيق بشكل خاص بعد أن اتهم الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، في محاولة متعمدة لتعطيل التحقيق، البيطار بالتحيز السياسي ودعا إلى استبداله.
إن فشل العدالة في كارثة الميناء هو جزء من ثقافة أوسع نطاقا للإفلات من العقاب سادت منذ الحرب الأهلية اللبنانية، والتي انتهت في عام 1990 بقانون عفو عفا عن الجناة، الذين أصبح العديد منهم قادة لبنان بعد الحرب. كما قيد العفو الجرائم التي يمكن مقاضاتها في هذه العملية، مما أحبط احتمالات الرد والمساءلة والعدالة. لكن المطالبات بالإصلاح والمساءلة استمرت، لاسيما في أعقاب الانهيار الاقتصادي اللبناني عام 2019، والذي اعتُبر كسادا متعمدا دبرته قيادة البلاد.
وشملت هذه المطالب دعوات لمحاسبة المسؤولين الفاسدين وتجميد أصولهم في الخارج، وقد لاقت بعض النجاح، بما في ذلك تجميد محكمة فرنسية لأكثر من 130 مليون دولار من أصول حاكم المصرف المركزي السابق المحاصر رياض سلامة على خلفية جرائم مالية مزعومة.
وعلى الرغم من المخاطر الكبيرة التي تهدد سلامته ومسيرته المهنية، فقد حظي قرار القاضي بيطار باستئناف التحقيق بعشر لوائح اتهام جديدة بالإشادة باعتباره عملا من أعمال النزاهة والقوة.
ويصفه مؤيدوه بأنه رمز للمقاومة (“الفارس الأبيض”، “غير قابل للفساد”) لثقافة الإفلات من العقاب المتجذرة في لبنان. كما يأتي تجديد التحقيق في وقت يواجه فيه حزب الله إعاقات شديدة في أعقاب الحرب المدمرة مع إسرائيل، والتي ساعدت في تمكين انتخاب الرئيس عون وتشكيل الحكومة المستقلة الجديدة التي تعهدت بإصلاح القضاء.
ويواصل منتقدو بيطار، والكثير منهم مسؤولون حكوميون حاليون أو سابقون أزعجتهم جرأته المزعومة، اتهامه بتسييس التحقيق.
وبالنسبة لعائلات الضحايا التي طالبت بالحقيقة والعدالة من خلال تحقيق نزيه ومستقل في الكارثة، تُمثل هذه القضية السبيل الوحيد نحو المساءلة. كما يُمكن أن تُجدد البلاد، وتولّد مسارا جديدا نحو الحقيقة وثقافة قائمة على الحقوق.
وفي لبنان، وصلت ثقة الجمهور بالقضاء إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. ليس القضاة اللبنانيون فقط مُحبطين، بل إن ثقة الجمهور بالقضاء قد تضاءلت.
وتركت سنوات من الشلل السياسي وفضائح الفساد والانهيار الاقتصادي الشعب في حالة من التشكك.
ويُتيح تحقيق انفجار المرفأ فرصة نادرة لإعادة بناء هذه الثقة، ولكن فقط إذا أدى إلى إجراءات ملموسة.
ولطالما دعت نقابة المحامين اللبنانية وهيئات المجتمع المدني المحلية إلى إصلاحات قانونية لتحقيق استقلال القضاء. ودافعت عن ضرورة استعادة وظائف القضاء وتسريع البت في قضايا رئيسية مثل التحقيق في انفجار بيروت، الذي لا يقتصر على المساءلة عن حادثة واحدة، بل يمكن القول إنه يتعلق بروح الدولة اللبنانية.
ويكتسب النضال ضد الإفلات من العقاب أهمية خاصة في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما، وهو ماض لم تتصالح معه البلاد تماما.
ولا يزال لبنان غارقا في صراع أهلي، ومجتمعه منقسم بشدة، ودولته مختطفة من قبل أمراء الحرب والأوليغارشية، وهو وضع كفل انتشار الإفلات من العقاب واستمراره.
وليس التحقيق في انفجار بيروت المثال الوحيد على فشل العدالة. كذلك هي الحال مع سلسلة اغتيالات بارزة طالت صحافيين ومثقفين وسياسيين هزت لبنان في أعقاب الحرب الأهلية.
وأصبح أمراء الحرب الفاسدون في البلاد جزءا من طبقة اللصوص والأوليغارشيين الذين يمثلون القيادة السياسية في لبنان. وسيبقى البلد منقسما، والدولة أسيرة حتى يواجه لبنان هذه الحقيقة ويحاسب قادته.
ويعود جزء كبير من هذا إلى قانون العفو الذي رافق نهاية الحرب الأهلية. ففي إطار نزع سلاح الفصائل وإحلال السلام، برّأ القانون بأثر رجعي الأطراف المعنية من مسؤولية الجرائم المرتكبة خلال الحرب، مما وفّر حماية فعلية للقادة من الاضطهاد.
ولم يساعد غياب المساءلة، الذي سمح لأمراء الحرب بإعادة تشكيل أنفسهم كقادة سياسيين، فقط في ترسيخ نظام الحكم السابق، بل أدى أيضا، في غياب “رواية رسمية”، إلى خلق صراع بين الطوائف المختلفة حول الحرب، وفي نهاية المطاف إلى ترسيخ ثقافة الحصانة.
كل لبنان تبحث عن العدالة
ويُحذّر الخبراء من أن تقدّم بيطار قد يتوقّف مجددا إذا لجأت الجهات السياسية إلى أساليب مألوفة لعرقلة القضية، كالعقبات القانونية، والتعديلات الإدارية، أو حتى التهديدات المباشرة.
وفي خضمّ تجدد الجهود لتشويه سمعته وإقالته، يدعو خبراء القانون والمدافعون عن حقوق الإنسان إلى رقابة دولية حثيثة وضغط دولي لحماية العملية، مع التركيز على دور المجتمع الدولي.
وقد قدّمت بعض عائلات الضحايا التماسات إلى هيئات دولية، مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، مطالبةً بإنشاء “بعثة دولية مستقلة ومحايدة لتقصّي الحقائق في انتهاكات حقوق الإنسان”، ومجادلةً باحتمال وقوع جرائم ضد الإنسانية. وبينما لا يزال الاختصاص القضائي مسألةً معقدة، تُبرز هذه الجهود الأبعاد العالمية للانفجار وتداعياته.
وفي هذه الأثناء، لا تزال بيروت تحمل ندوبا عميقة، ولا تزال أحياء بأكملها قرب المرفأ تحمل جراح ذلك اليوم الجسدية والنفسية.
وتنتشر النُصب التذكارية في أرجاء المدينة، وتُذكّر جداريات الضحايا بما فُقد. وبالنسبة للكثيرين، لم يُسهم غياب العدالة إلا في تعميق الصدمات الداخلية لدى اللبنانيين، وإنقاذ البلاد وتعافيها لا يمكن أن يتحققا في غياب أجندة للمساءلة. لكن وسط هذا اليأس، ثمة شعور حذر بإمكانية تحقيق ذلك، لاسيما مع تغير الديناميكيات السياسية في لبنان وضعف حزب الله.
وإذا سُمح للقاضي بيطار بالمضي قدما دون تدخل، وإذا أدت التهم إلى اعتقالات، وإذا عُقدت المحاكمات في جلسة علنية، فقد يُمثل ذلك بداية فصل جديدّ، ليس فقط في قضية انفجار المرفأ، بل في نضال لبنان الأوسع من أجل المساءلة ووضع حد لسيطرة حزب الله على الدولة.
ومع ذلك، يجب أن يُستكمل هذا بجهود لتعزيز سيادة القانون، وتعزيز استقلال القضاء، ومراجعة الماضي. وتُعدّ أحدث جهود الحكومة الحالية لترسيخ استقلال القضاء خطوات في هذا الاتجاه.
ولا يزال الطريق طويلا. فالتدخل السياسي خطر حقيقي قائم، والقضاء لا يزال بحاجة إلى إصلاح هيكلي عميق. لكن ثمة بصيص أمل لأول مرة منذ سنوات.
وقد يكون هذا كافيا للشعب اللبناني لإبقاء النضال من أجل العدالة قائما، ومواجهة ماضي البلاد المضطرب، والتغلب على نظام راسخ للإفلات من العقاب.