مساع مغربية لتذليل العقبات أمام ضبط الاقتصاد النقدي
تعددت مبادرات الحكومة المغربية عبر تشجيع الدفع الرقمي والتوعية بسلبيات التعاملات النقدية وكلفتها المرتفعة مع تحفيز الشركات المتوسطة والصغيرة لاعتماد حلول الدفع الجديدة، بيد أنه لوحظ تمسك من قبل المتعاملين بإتمام معاملاتهم نقدا.
وبنهاية مارس الماضي، ناهزت قيمة النقود المتداولة في السوق نحو 437 مليار درهم (47 مليار دولار) بزيادة 9 في المئة بمقارنة سنوية، وقفزةً بنحو 65 في المئة مُقارنةً بالمستوى الذي كانت عليه قبل خمس سنوات، وفقاً لأحدث بيانات البنك المركزي.
ومنذ عام 2018، أطلق المركزي مبادرات لخفض نسبة النقد المتداول، من بينها الدفع وإرسال الأموال عبر الهاتف ضمن إستراتيجية الشمول المالي.
وانصب التركيز على أصحاب البقالات الذين يستحوذون على حصة كبيرة من المعاملات المالية اليومية للمغاربة، لكن لم يكن الإقبال متوافقاً مع التطلعات.
وفي مؤتمر صحفي في يونيو الماضي، أكد محافظ المركزي عبداللطيف الجواهري أن ارتفاع تداول “الكاش” من أكبر المشكلات التي يُعاني منها اقتصاد البلاد، وقال “وصلنا إلى أكثر من 400 مليار درهم (39.8 مليار دولار)، هذا يمثل 30 في المئة من الناتج المحلي، وهي من المستويات العُليا في العالم.”
وأضاف حينها “هذا الوضع لا يجب أن يستمر،” معلناً عن إحداث لجنة تضم البنوك وعدد من الخبراء لوضع تحليل لهذه المعضلة وتقديم حلول.
وحاول المركزي دراسة العوامل التي تؤدي إلى هذا الارتفاع المقلق، ومن ضمن ما خلص إليه أن ذلك “مرتبط بثقافة مترسخة لدى المواطنين وتفضيلهم التعامل بالنقد، إضافة إلى مشكل القطاع غير الرسمي.”
وحذر البنك من أن هذا الارتفاع يثير مخاطر عدة من بينها غسيل الأموال وتمويل الإرهاب بالنظر لصعوبة تتبع النقد المتداول.
وعزا الخبير الاقتصادي محمد الشيكر ذلك لعدة عوامل، منها كون التعامل مع البنوك يشترط أن يكون لدى الفرد دخل شهري ثابت، وهو ما ليس متاحاً للجميع، إضافة إلى أن ارتفاع مستوى الأمية يحول دون لجوء فئة كبيرة إلى فتح حساب بنكي.
وقال لبومبيرغ الشرق الأحد إن “الرغبة في تفادي مراقبة إدارة الجبايات من بين العوامل الأساسية، إضافة إلى حجم القطاع غير الرسمي الذي تُؤدى فيه الأجور نقداً عوض التحويل البنكي.”
وشكل الاقتصاد الموازي جزءاً كبيرا من الاقتصاد، وغالبا ما يعتمد على التعامل النقدي لتفادي الضرائب والتعاملات الرسمية، وتم تقدير حجمه من طرف البنك المركزي بنحو 30 في المئة من الناتج المحلي.
وتحاول السلطات خفض هذه النسبة بجعل التحول نحو القطاع الرسمي أكثر سهولة وجاذبية، بزيادة الفوائد والامتيازات المتاحة وتقليل التكاليف لممارسة الأعمال.
ورغم استفحال التعامل بالنقود وما تخلفه من عجز السيولة للبنوك، لا يُفكر المغرب في فرض ضريبة على استعمال النقد أو استبدال الأوراق النقدية بأخرى جديدة، وهي طرق استعملتها عدة دول، إذ يرى الجواهري أنه في الأخير “يبقى استعمال النقد حقاً للمواطن”.
وبحسب ليلى سرحان، المدير الإقليمي في شمال أفريقيا ودول المشرق وباكستان في شركة فيزا فإن بإمكان المغرب الحد من ارتفاع استعمال النقد بتشجيع حلول الدفع الرقمية في عدد من القطاعات، على رأسها النقل العام، لأنه مجال يتم فيه التداول بكثرة للنقود.
وهذا الرأي يؤيده أيضاً ياسين ركراكي عضو فريق عملة اليورو الرقمية في الشركة الفرنسية وورلد لاين للمدفوعات الرقمية، الذي يقول إن تشجيع الدفع الرقمي في وسائل النقل أحد الحلول الأساسية لمواجهة هذه المشكلة.
ويعد تحفيز الشركات المتوسطة والصغيرة إحدى الجبهات التي يعمل المغرب عليها في هذا الصدد، فنسبتها تمثل أكثر 95 في المئة من الشركات في البلاد، وأغلبها تعتمد في معظم تعاملاتها التجارية على حلول دفع تقليدية مثل النقد والشيكات.
ويرى محمد حوراني رئيس مجلس إدارة شركة أتش.بي.أس المتخصصة بحلول وبرمجيات المدفوعات البنكية، أن “دعم انتشار الشمول المالي عبر وصول الخدمات المالية إلى الجميع، في المدن والقرى، هو الطريقة الرئيسية لخفض نسبة الكاش.”
وقال لبلومبيرغ الشرق إن “كلفة الدفع غير النقدي يجب أن تكون أقل مُقارنة بالكاش. هذا هدف يتطلب تظافر جهود الجميع، لكي نواكب توجه السوق العالمية من خلال اعتماد حلول الدفع الآني للاستفادة من مزاياه العديدة.”
ومن شأن إقرار تحفيزات ضريبية على اعتماد المدفوعات الرقمية من الشركات المتوسطة والصغيرة أن يُخفف من النقد المتداول، وفق سرحان، ودعت الحكومة إلى التفكير في سياسات ضريبية، وهي توصية طالما تبناها بنك المغرب المركزي.
وقالت إن “المغرب مُقبل على تظاهرات رياضية كبيرة، على رأسها كأس العالم 2030، ومن شأن تشجيع استعمال الحلول الجديدة للدفع أن يوفر للمشجعين تجربة جيدة، في الطريق إلى الملعب وداخله وخارجه.”
وتمثل العملات المشفرة والعملة الرقمية للبنوك المركزية أحد الحلول المطروحة في العالم لدعم الشمول المالي وخفض نسبة الكاش.
ويدر معظم البنوك المركزية إطلاق صيغة رقمية لعملاتها الرسمية، وهي مساعي انخرط فيها المغرب، وبات يفكر أيضاً في تقنين العملات المشفرة بدعم من صندوق النقد الدولي في سعيه لرقمنة المدفوعات بشكل أكبر.
وتوقع ركراكي الذي يعمل ضمن فريق على مشروع عملة اليورو الرقمية في الاتحاد الأوروبي أن تصدر الرباط عملة الدرهم الرقمية في غضون السنوات الخمس المقبلة بعد إجراءات الدراسات اللازمة.
وسبق أن صرح الجواهري بأنه تم الانتهاء من مسودة مشروع قانون لتقنين العملات المشفرة والدرهم الرقمي ويوجد حالياً قيد الدراسة من طرف وزارة الاقتصاد والمالية وعدد من الهيئات الحكومية.
وقال ركراكي “قد يتناقص استعمال النقد مستقبلاً، وهو أمر مطلوب لأنه مكلف وقذر، ووراءه الكثير من عمليات غسيل الأموال.”
ولا يعتمد الأمر فقط على تشجيع استعمال حلول الدفع غير النقدية في قطاعات مثل وسائل النقل، بل يتوقف الأمر أيضاً على تشجيع القطاع الخاص ليكون منخرطاً بشكل أكبر.
وقالت سرحان إن “الأمر يتوقف على مشاركة المنظومة بأكملها، من بنوك وشركات وهيئات مهنية، وجعل حلول الدفع الرقمية أقل كلفة.”