هل تحقق البرامج الثقافية لمعارض الكتب العربية أهدافها

وكالة أنباء حضرموت

تزدحم معارض الكتب العربية بالندوات والفعاليات الحوارية التي تناقش قضايا الثقافة والفكر والفنون والآداب وأحيانا بعض القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولكنها في المجمل قادمة من علٍ، أي من السلطة، سواء كانت السلطة الحاكمة بالتوجيه ولفت النظر بعدم التطرق لهذه القضية أو تلك، أو من السلطة الثقافية الموالية بطبيعة الحال للسلطة الحاكمة، لتبقى الدائرة مغلقة ومن ثم فإن هذه الندوات والفعاليات تظل تحت سقف من الحرية محدودا، الأمر الذي لا يعني الكثير لجمهور هذه المعارض على اختلاف توجهاته.

وفي هذا التحقيق نستطلع رؤى المثقفين قيمة وجدية ما تطرحه البرامج والفعاليات من نقاشات في معارض الكتب؟ وهل من صدى لها داخل الرأي العام الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي؟

حضور متراجع

يقول الروائي والناقد السوري نبيل سليمان “إذا كانت قيمة وجدية وأصداء البرامج والفعاليات الثقافية تتباين من معرض للكتاب العربي، إلى معرض، فلعلّ القاسم المشترك الأعظم بينها هو تواضع كل ذلك، وتراجعه من دورة إلى دورة على الرغم من أن تلك البرامج والفعاليات تطرد عدداً وتنوعاً، وتبدو كبرياتها كأنما هي في سباق لحشد الضيوف، والمبارزة في أسماء وعناوين الفعاليات وفي استقطاب الأسماء الأكثر لمعاناً.”

ويضيف “هكذا يغلب الطابع الاحتفالي الاستعراضي على الفعل الثقافي أو الاجتماعي. أما الفعل السياسي فهو غير مرغوب فيه جهاراً أو مواربة. هكذا يمكن لأحدهم أن يعتبر أن بطل البرامج والفعاليات الثقافية لمعارض الكتاب العربي لعام 2024 هو الكاتب السعودي الشاب أسامة المسلم. فإذا كان حضور أحلام مستغانمي في معرض الشارقة قد اجتذب جمهوراً عريضاً، فوحدها روايات الرعب والهلوسة التي يتفنن فيها أسامة المسلم اجتذبت الآلاف في معرض الرباط، وقبل ذلك في معرض القاهرة. وسواء أصح أم لم يصحّ تعليل ذلك بسلطة السوشيال ميديا وجيل التيك توك والانستغرام والفيسبوك وما أدراك، فما يتبقى لندوات القامات الثقافية المرموقة في معارض الكتاب هو يسير إلا في ما ندر، وإن لم يكن المعول عليه في الارتقاء بقيمة وجدية وأصداء الحراك الثقافي لمعارض الكتب.

ويرى أستاذ علوم المسرح د. نبيل بهجت أن السؤال حول جدوى فعاليات معارض الكتاب يحمل في طياته سؤالًا مهمًا عن جدوى الخطاب الثقافي الرسمي ومدى فاعليته.

ويضيف “أعتقد أن هناك حالة من انعدام الثقة بين الخطاب الرسمي والمتلقي، نتيجة انحياز الأول لرؤية من هم في السلطة، مما يفقده مصداقيته وثقة الجمهور. أزمة الفعاليات الثقافية في أوطاننا العربية تكمن في أن منتجها هو نفسه مستلمها، بمعنى أن المنتج والجمهور في الغالب يشكلان مجموعة محدودة، ‘الشلة‘، التي تستفيد من علاقاتها مع الرسميين. لذا ظهرت في معارض الكتب مؤخرًا ظاهرة ‘المؤثرين‘ الذين يتجمع حولهم الآلاف، في مؤشر واضح على تراجع الاهتمام بالثقافة الجادة لصالح الاستهلاك السطحي، ما يعد مؤشرًا حقيقيًا على جدوى الفعاليات الرسمية.”

ويؤكد بهجت إن وجود الرقابة والالتزام بالخطاب الرسمي، بالإضافة إلى انخفاض سقف الحريات أو انعدامها في كثير من الأحيان، أدى إلى انفصال بين ما تتبناه الدولة من خطاب وبين الجمهور، الذي انصرف عن هذه الفعاليات التي أصبحت تقتصر على مناقشة المسموح به، واستضافة من يُرضى عنهم من قبل السلطات.

ويقر أن هذا الوضع انعكس سلبًا على تلك الفعاليات، في وقت أصبح فيه كل شيء متاحًا للنقاش، وأصبح بإمكان أي شخص الوصول بأفكاره من خلال منصات مثل البودكاست واليوتيوب وغيرها إلى الجمهور. ولا حل لاستعادة دور تلك الفعاليات سوى برفع الحظر عن الموضوعات والأشخاص الذين تهمهم قضايا المواطن ومشاكله. وإلا ستظل هذه الفعاليات مجرد روتين شكلي، يقتصر على إقامة معارض وفعاليات وكأنها سرادقات عزاء واجبة الحضور.

ويشير الشاعر كريم عبدالسلام إلى أن القيمة لما هو مطروح من نقاشات وفعاليات في معارض الكتب بعامة، تستمد من أمرين أساسيين، الأول: مدى قوة الواقع الثقافي في البلد الذي يقيم معرض الكتاب، والأمر الثاني: مدى حضور الثقافة والإبداع في المجتمع بعامة. بالنسبة إلى الأمر الأول، فإن قوة الواقع الثقافي تقاس بثراء التفاعلات والجدل البناء والحضور الدائم للكتاب والشعراء، وتأثير المنصات والصحف والدوريات الثقافية التي تمثل المبدعين تمثيلا حقيقيا وتعرض لنتاجهم بموضوعية، وأيضا نشاط الحركة النقدية المواكبة للإبداع وأحيانا المعبّدة للطرق الجديدة أمام المبدعين، ووجود حركة ترجمة مواكبة للتيارات الإبداعية في العالم وعلى تواصل معها.

ويضيف “في ظني أن هذا الأمر متراجع تراجعا كبيراً في عالمنا العربي، فلا تفاعل أو حضور أو جدل بناء بين المبدعين في البلد الواحد أو بين المبدعين العرب في البلدان العربية، وكذا الأمر ينطبق على تراجع الحركة النقدية وحركة الترجمة والأسباب يطول شرحها.”

أما الأمر الثاني المتعلق بحضور الثقافة والإبداع في المجتمع، فيشير إلى مأساة متكاملة الأركان، بعد أن سيطرت عقلية السوشيال ميديا على عدة أجيال متتابعة، وتراجع الدول مركزية الثقافة عن دعم النتاج الثقافي والمبدعين، حتى أصبح الشعراء والكتاب في كثير من بلادنا العربية، علامة على قبائل منقرضة، تنتج سلعة غير مرغوب فيها أو ينظر إليها بشك وغموض، نحن نعيش محنة اغتراب كاملة يلخصها بيت المتنبي ‘وَلَكِنّ الفَتى العَرَبي فِيهَا..غ َرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ‘.”

جمهور معارض الكتاب
يلفت الشاعر والكاتب المسرحي من سلطنة عمان عبدالرزّاق الربيعي إلى أنه رغم أن إدارات معارض الكتب، عند وضعها للبرامج الثقافية المصاحبة لفعاليات تلك المعارض، تحرص أشدّ الحرص على إدراج الجلسات الشعرية ضمن برامج تلك المعارض الثقافيّة، بل أنها تسعى إلى استضافة شعراء لهم مكانة في الساحة الشعرية العربية.

ويضيف “لقد حضرت جلسات شعرية في معارض خليجية، لشعراء معروفين، لكن الحضور كان قليلا جدا والسبب لا يعود لتراجع الشعر، وانصراف الجمهور عنه، بل لأن زوّار المعارض غالبا ما يتوجّهون للمعارض لشراء الكتب، وليس لحضور الندوات، أو الأمسيات شعرية، أو محاضرات، وكذلك للاطلاع على العناوين الجديدة، واللقاء بالناشرين وتلبية دعوات الأصدقاء المؤلفين الذين يوقّعون على إصداراتهم، واللقاء بأصدقاء لا يلتقون بهم إلّا في مثل هذه المناسبات وشرب فنجان قهوة في مقهى من مقاهي المعرض، وغضّ السمع عن نداءات الإذاعات الداخلية التي تعلن عن بدء أمسية شعرية لشاعر معروف أو مجموعة من الشعراء في قاعة تقع على بعد أمتار من تلك المقهى.”

ويقر أن الزوار لا يكلّفون أنفسهم عناء التوجه للأمسية التي غالبا ما تقام في قاعة مفتوحة حيث تختلط الأصوات وتتداخل ببعضها بسبب الزحمة. باختصار الفائدة المرجوّة من إقامة الجلسات الشعرية في معارض الكتب قليلة، وغالبا ما تقام للزوميات تحويل المعرض إلى تظاهرة ثقافية، ولكي لا يقال أن معارض الكتب ليست سوى دكاكين لبيع الكتب!

ويؤكد الشاعر سمير درويش أن الندوات الثقافية في معارض الكتاب -وأي ندوات- فرصة لكي يتحدث المثقفون إلى الجمهور مباشرة دون وسائط، في المجالات المختلفة: الآداب والفنون والسياسة والرياضة والعلوم، ولهذا الالتقاء فوائد جمة -للطرفين- إذا تم اختيار المتحدثين بعناية.

ويضيف “على الرغم من أن جمهور معارض الكتاب هو جمهور تسوق أو تنزُّه، فإن الندوات تأخذ حظًّا ليس قليلًا من المتابعة، حتى أمسيات الشعر. الزائر العشوائي الذي قد يقصد الاستراحة على مقاعد قاعات الندوات، أو يذهب إليها لمجرد الفضول، قد يجد ما يرضيه في تلك الندوات، طبعًا إذا استثنينا أن هناك ندوات لمشاهير المثقفين يقصدها روادها بأعداد كبيرة.”

ويتابع درويش “أؤمن أن كل المشكلات ثقافية بالأساس، وأن مشاركة المثقفين في النقاش حولها هو بداية تنويرها وإيجاد السبل الصحيحة للتعاطي معها، وأن تهميش المثقفين ليس في صالحهم كما أنه ليس في صالح الدول التي ستفتقد نظراتهم العميقة ومداخلهم غير التقليدية. كما أؤمن أن الثقافة لا تغير الناس بشكل مباشر، بمعنى أن مرتاد الندوة لن يغير قناعاته بنسبة مئة في المئة بعدها، لكن التغيير يكون بطيئًا على المدى البعيد، ولكنه يكون راسخًا.”

ويرى أن الصخب الذي يصاحب معارض الكتاب نتيجة كثرة الزوار وعشوائيتهم واحتفالية الزيارات، قد يجعلها مكانًا غير مناسب لندوات ثقافية عميقة، لكنها -في ذات الوقت- تعتبر سوقًا للأفكار والكلام والمناقشات، كما هي سوق للكتب، سوق قد لا تتوافر بتلك الكثافة في مكان آخر أو مناسبة أخرى.. لذلك أعتقد أن ندوات معرض الكتاب شديدة الأهمية.. والتأثير أيضًا.

المطلوب المصداقية

يرى الكاتب والمترجم أشرف راضي أن الندوات الحوارية والمناقشات، باعتبارها إحدى الفعاليات الثقافية المستحدثة المرتبطة بالمعارض الدولية للكتاب، وأشهرها على المستوى الدولي معرض فرانكفورت، وعلى المستوى العربي معرض القاهرة الدولي ومعرض الشارقة. وعلى الرغم من أن الحوار والنقاش عملية مستمرة في المجتمعات تتم عبر وسائط إعلامية ومنصات مختلفة، إلا أن الحوارات والمناقشات التي تجرى بمناسبة معارض الكتب لها قيمة أكبر لارتباطها بالكتاب، الذي يعد ركيزة أساسية للصناعة الثقيلة في مجال الفكر والثقافة.

ويضيف “يمكن القول إن الموضوعات المثارة أو التي تجري مناقشتها والحوار بشأنها ضمن فعاليات معارض الكتب تشكل أو تعيد تشكيل أجندة الحوار المجتمعي العام، سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو على المستوى العالمي. ومن هنا، تكتسب تلك الحوارات قيمة أكبر وأعلى. الأمثلة على ذلك كثيرة ولا يتسع المجال لسردها، لكن نشير هنا إلى غلبة قضايا التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات على المحاور المختلفة للنقاشات في سياق معرض فرانكفورت الدولي الذي يقام سنوياً في مدينة فرانكفورت الألمانية، والذي تشارك فيه دور النشر من شتى أنحاء العالم والتي تصدر كتبا بكل لغات العالم تقريبا.”

ويتساءل راضي “هل تعتقد أن لها صدى ما في الرأي العام الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي؟” ويقول “بالتأكيد هناك صدى كبير لهذه المناقشات والحوارات على الرأي العام الثقافي، لأنها تشكل أجندة الحوار والنقاش العام في المجتمع لمدة عام على الأقل كما أن توجه أعمال المؤلفين والباحثين وصناع المحتوى في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية بالمعنى العام.”

ويشير الكاتب الروائي هاني القط إلى أن البرامج الحوارية في معارض الكتب ليست مجرد منصات للنقاش، بل هي محركات أساسية لتشكيل الوعي الجمعي، شريطة أن تستند إلى أعمدة المصداقية وعمق الطرح. المصداقية هنا لا تعني بالضرورة شعبية المتحدث، بل قدرته على تقديم رؤًى متفردة واستقلالية فكرية تلامس القضايا الجوهرية. فكم من شخصيات ذائعة الصيت لا تترك أثرًا يُذكر، بينما آخرون، رغم قلة شهرتهم، يُحدثون تحولات فكرية عميقة بفضل جرأتهم وصدق رؤاهم.

ويضيف “إن المنصة التي تحتضن النقاش تؤدي دورًا حاسمًا؛ فالمنصات الثقافية الرصينة تضفي على المضمون ثقلًا إضافيًا، وتدفع النقاش من إطار خاص إلى دائرة التأثير العام. وعندما يجتمع متحدث عميق مع منصة موثوقة، ينشأ حوار قادر على تجاوز الجدران، ليصل صداه إلى الرأي العام الثقافي والاجتماعي، وربما السياسي. إن استدعاء التجارب السابقة يُبرز كيف يمكن للطرح الصادق أن يكون جسرًا للتغيير.”

ويذكر أنه في إحدى ندوات معرض الكتاب، اجتمع الحضور حول محمد حسنين هيكل، ليس فقط بفضل شهرته، بل بسبب رؤيته المتفردة وعمق تحليله، مما جعل الجميع ينصتون باهتمام لما يقول، بصرف النظر عن اختلاف توجهاتهم. وعلى نحو مماثل، تحدث يوسف إدريس في الثمانينات عن مشكلات نهر النيل، والتي بدت حينها بعيدة عن أولويات النقاش العام، لكن تحليله يُثبت اليوم بُعد نظره، ويُحول حديثه إلى إرث فكري ينبض بالحياة. وأخير فإن الفعاليات الحوارية، في جوهرها، ليست مجرد استعراض للأفكار، بل هي مختبرات حقيقية لصياغة وعي جديد. قيمتها تُقاس بمدى جرأة الأفكار المطروحة، وارتباطها بالواقع. وعندما تتوافر هذه العناصر، تتحول النقاشات إلى قوة حقيقية تُعيد تشكيل المفاهيم، وتمنح الحوار الثقافي دورًا محوريًا في رسم ملامح المستقبل.