صالح أبوعوذل

أكذوبة الشراكة والدولة العميقة؟

وكالة أنباء حضرموت

قال عدد من السياسيين والناشطين اليمنيين، في تدوينات متكررة، إن النظام الإيراني أخطأ حين وجّه أمواله لبناء مفاعلات نووية بدلًا من الاستثمار في محاربة الفقر والتنمية البشرية، وقد يبدو هذا الطرح مقبولًا – وربما منطقيًا – لو جاء من مواطنين خليجيين يعيشون في بلدان تنعم برخاء اقتصادي وبنية تحتية متماسكة. لكن حين يأتي هذا العتاب من يمنيين، معظمهم يعيش في بلدان الشتات، في ظل استمرار الهجرة "السفر دون عودة"، فالأمر يدعو للتساؤل بل وربما للسخرية المرة.
فعلى مدى نصف قرن، لم تُسخَّر موارد اليمن – وهي ليست قليلة – لبناء دولة أو مؤسسات أو بنى تحتية، بل استُخدمت لتكوين ثروات خاصة، وتمكين نخب عائلية وقبلية. في صنعاء، النظام الذي ادّعى الانتقال من الملكية إلى الجمهورية، حافظ على روح النظام الملكي من حيث الشكل والمضمون، سوى أن الرؤساء تعاقبوا عبر الاغتيالات والانقلابات لا صناديق الاقتراع. أما عدن، فشهدت انقلابات مماثلة، وظل منطق التصفيات هو السائد.
والمفارقة أن كل طرف، بعد كل انقلاب دموي، يظن أنه على أعتاب نهضة كبرى ستنقل بلده إلى مصاف الدول المزدهرة. لكنها كانت – في معظم الأحيان – مجرد دوامة جديدة من الفشل المؤسسي والتصحر التنموي.
حين تولى الرئيس اليمني الراحل، علي عبدالله صالح، حكم الجمهورية العربية اليمنية عام 1978م، كان يدرك تمامًا أنه ليس أكثر حظًا ممن سبقوه، وأن المصير نفسه قد ينتظره: اغتيال، انقلاب، أو تصفية مبكرة. لذلك، سارع إلى تثبيت أركانه عبر تحالفات قبلية تقليدية، فاختار أن يتكئ على بيت "الأحمر" لضمان دعم قبائل حاشد، وعمل على نسج شبكة تحالفات قبلية واسعة النطاق.
لكن المفارقة أن إدارة الحكم، وقيادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، لم تكن ثمرة شراكة وطنية، بل أصبحت حكرًا على دائرة ضيقة من الأقارب والمقربين، في نمط حكم قائم على الولاء الشخصي لا الكفاءة المؤسسية.
هل أخطأ صالح في هذا؟ الأرجح نعم. وربما لو كُتب له أن يعيد عقارب الساعة إلى ما قبل الثاني من ديسمبر 2017، لاختار مسارًا مختلفًا: بناء نظام وطني يقوم على شراكة حقيقية في السلطة، وتوازن فعلي في قيادة الجيش، بدلًا من تقاسم المؤسسة العسكرية بينه وبين حلفائه الإسلاميين في حرب صيف 1994م على الجنوب. 
لقد كانت تلك التحالفات، في ظاهرها أدوات للحكم، لكنها في عمقها كانت بذورًا لتآكل الدولة نفسها، خسر الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح أحد أبرز دعائم حكمه بوفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، الزعيم التاريخي لقبيلة حاشد، ذلك الحدث لم يكن مجرد فقدان لحليف، بل إيذانًا بانهيار التحالف القبلي التقليدي الذي شكّل عصب نظام "صالح". 
فبعد وفاة الشيخ الأحمر، اتجه أبناؤه، وفي مقدمتهم قادة الإخوان المسلمين الجدد، إلى تشكيل أحزاب ضمن تكتل "اللقاء المشترك"، وضموا تحت جناحه أطرافًا طالما ناصبهم العداء، مثل الحزب الاشتراكي اليمني، الذي كان قد دفع ثمناً باهظاً قبيل وبعد حرب 1994، حين قاد الإسلاميون، وعلى رأسهم أولاد الأحمر، حملة تصفية لقياداته وكوادره، إما تقربًا من "صالح" أو خدمة مباشرة لمشروعه السلطوي.
لم تكن انتفاضة 2011، بما فيها من تخطيط لاغتيال صالح ورجاله الأقوياء، ثم إرغامه على تسليم السلطة، سوى ثمرة مباشرة لانهيار ذلك التحالف القبلي ـ الديني ـ العسكري. لكن "صالح" الذي كان يتقن المناورة في لحظات ضعفه، لم يتجه نحو مصالحة وطنية حقيقية، لا مع الجنوب "المنهزم في الحرب"، ولا مع قوى اليمن الأخرى، بل استعاد فزاعة "الانفصال" كلما حاصرته الأزمات.
كان "صالح" يشنّ حملات إعلامية عنيفة ضد "المعارضين"، مقدِّمًا نفسه كمن أنقذ اليمن من "حرب الردة والانفصال"، وكأن الوحدة اليمنية كانت مشروعًا شخصيًا له لا شراكة وطنية بين دولتين. 
لم يفكر خارج صندوق قبيلة حاشد، ولم يسعَ لبناء شراكة متوازنة لا مع الجنوب، ولا مع تهامة، ولا مع تعز، بل اعتمد على شخصيات سياسية يمنية باهتة، كانت تتغنى بانقلاب "صالح" على الوحدة وتصفق لحروبه باعتبارها "معارك الحفاظ على اليمن الموحد".
في الحقيقة، لم تكن ورقة "الانفصال" بالنسبة لـ"صالح" سوى وسيلة ابتزاز، يُلوِّح بها في وجه الداخل والخارج، فالرجل كان يتهم دائمًا السعودية بدعم الجنوب ضد في مواجهة تلك الحرب العدوانية، بل ويتهم الرياض بمعارضة الوحدة اليمنية من الأساس، في وقت كان يتحالف فيه معها ضد خصومه الداخليين، ومع كل اتهام كانت "الرياض" تعزز من حضور القبيلة اليمنية وتمنح زعماء القبائل اليمنية الكثير من الدعم السخي، وفي المحصلة والنهاية "صالح" خارج السلطة بمبادرة سعودية، ولا خيار معه الا التحالف مع الحوثيين، الذين قتلوه في نهاية المطاف بعد ان كان على وشك اخراجهم من صنعاء في أواخر العام 2017م.
اليوم، ونحن نعيش في عهد مجلس القيادة الرئاسي، نجد أنفسنا أمام مشهد لا يقل عبثية عمّا سبقه. رئيس المجلس لا يبدو معنياً بانهيار العملة، ولا يحرّكه الانهيار الاقتصادي، ولا يهتز لمعاناة سكان المدن الساحلية تحت سياط انقطاع الكهرباء الطويل. كل ما يهمّه ـ كما يبدو ـ هو بناء إمبراطورية اقتصادية لأبنائه، وقياسًا عليه يمكن فهم سلوك بقية أركان السلطة.
المؤسسات السيادية، بما في ذلك المؤسستين العسكرية والأمنية، باتت تُدار بعقلية "العائلة والمقربين"، لا بروح الدولة ولا بمنطق الشراكة. فأين هي الشراكة التي بشّروا بها؟ وكم على بقية القوى أن تنتظر حتى يُسمح لها بمقعد على الطاولة؟ أم أن الأمر قد حُسم، وبات الوطن شركة خاصة تتقاسمها العائلات النافذة؟
والأخطر من غياب الشراكة، أن الناس ما عادوا يطالبون بها. اليوم، لم تعد الشراكة أولوية، بل صارت المطالب أبسط وأكثر إلحاحًا "كهرباء، ماء، مرتبات، واستقرار للعملة".
الناس يريدون الحد الأدنى من مقومات الحياة. يريدون إدارة رشيدة لا تبحث عن شماعات فشلها.
فالرئيس السابق علي عبدالله صالح، حين كان يواجه انتقادات لفشل سياساته، كان يلجأ إلى تهمة جاهزة: "الانفصال". كل من طالب بحق أو عارض فسادًا صار انفصاليًا في عرف النظام. 
لكن تلك "التهمة" التي كان النظام يلوّح بها في وجه قادة الجنوب تحولت إلى حقيقة سياسية في الوعي الجمعي. فالقادة الذين وُصِفوا بالانفصاليين، وجدوا أنفسهم عام 2007م في موقع رمزي مختلف، وقد صاروا يحملون راية مطالب وطنية واضحة، ارتفعت تدريجيًا حتى بلغت ذروة الوعي السياسي الجنوبي، بالتمسك بمشروع "فك الارتباط" واستعادة الدولة الجنوبية التي طُمست بعد حرب 1994م.
لقد أدرك الجنوبيون، منذ انطلاقة الحراك الجنوبي، أن ما جرى في 1990 لم يكن وحدة، بل خديعة مغلّفة بشعارات رومانسية، وأن ما جرى في 1994 لم يكن "حربًا للحفاظ على الوحدة"، بل عدوانًا سياسيًا وعسكريًا جائرًا، سلب الناس كل شيء: الأرض، والثروة، والقرار، والكرامة.
لكن الحراك الجنوبي، برغم عدالة قضيته، عانى منذ لحظاته الأولى من أزمة قيادة حقيقية. فالقيادات الجنوبية التي هرولت إلى مشروع "الوحدة اليمنية" عام 1990، هربت من الجنوب بغير رؤية، وذهبت إلى صنعاء عارية من أي ضمانات أو اتفاق شراكة حقيقية. وحين انقلبت صنعاء عليهم، استمروا في الهروب... ثم عادوا بعد سنوات ليلقوا بكل اللوم على نظام صنعاء، وكأنهم لم يذهبوا إليها برضاهم أو كأنهم لم يوقعوا على مشروع الوحدة دون أدنى مسؤولية تاريخية.
كانت تلك القيادة ـ للأسف ـ أشبه بمراهق وقع ضحية محادثة افتراضية عبر الإنترنت، قدّم كل شيء تحت وهم العلاقة، ثم عاد مكسورًا يشتكي الخداع، دون أن يسأل نفسه: من الذي صدّق الوهم؟ ومن الذي قدّم وطنًا وثروةً ومساحةً على طبق من ذهب، دون أن يطلب حتى إيصال استلام؟.
واليوم، يعود المشهد في نسخة بائسة: حديث عن "الدولة العميقة"، وهمٌ يُروّج له من هم في موقع السلطة التنفيذية. لكن إذا استمر هذا النهج، قد تصبح الدولة العميقة واقعًا لا مفر منه، وقد يغدو حلم استعادة دولة الجنوب أكثر بعدًا وتعقيدًا، لأن من يمسكون بزمام السلطة اليوم يخافون من شبح دولة تجاوزته بندقية المقاومة الجنوبية في العام 2015م.
هل يُعقل أن يُطلب من الناس أن ينتظروا "بقايا دولة غير موجودة"؟ هل المطلوب منهم الصبر على الوجع والانهيار، بينما الوزارات تُدار كغنائم، لا كأدوات لخدمة المواطن وإنقاذه من الفقر والعوز؟
كفى أوهامًا... إن لم تُفتح الأبواب أمام الكفاءات، وتُكسر حلقات الفساد والمحسوبية، فلا حديث عن دولة، ولا استقرار، ولا حتى أمل.

مقالات الكاتب