أزمة المعادن النادرة.. الصين تُربك الصناعة الأوروبية وتعيد رسم خريطة النفوذ
قال الباحث الاقتصادي الفرنسي تيري ماير، أستاذ الاقتصاد في معهد العلوم السياسية بباريس، إن قرار الصين بتشديد قيود تصدير المعادن النادرة يضع أوروبا أمام أزمة صناعية غير مسبوقة تهدد أمنها الاستراتيجي.
تعيش الصناعة الأوروبية اليوم على وقع أزمة حقيقية بعد قرار الصين تشديد قيود تصدير المعادن النادرة، التي تُعد أساس الصناعات التكنولوجية الحديثة، بدءًا من السيارات الكهربائية والطائرات والمعدات الدفاعية وصولًا إلى توربينات الرياح وأشباه الموصلات.
وأوضح ماير في تصريحات خاصة لـ"العين الإخبارية"، أن المعادن النادرة تشكّل العمود الفقري للصناعات التكنولوجية الحديثة، من السيارات الكهربائية إلى الطائرات والمعدات الدفاعية، وأن احتكار الصين لها يمنحها نفوذًا اقتصاديًا عالميًا متناميًا.
وأعلنت بكين هذا الشهر عن نظام تراخيص جديد يُلزم أي شركة ترغب في تصدير معدات تحتوي على أكثر من 0.1٪ من المعادن النادرة بالحصول على إذن رسمي، مع رفض تلقائي لأي طلبات تخص الصناعات الدفاعية، وفقًا لصحيفة لوموند الفرنسية.
وبموجب القواعد الجديدة، ستتأخر التراخيص ما بين 40 و60 يومًا، ولا تُمنح إلا لمدة ستة أشهر فقط، ما يمنع تكوين مخزونات صناعية ويهدد سلاسل الإمداد الأوروبية.
ويرى خبراء أن هذه الآلية تمنح الصين ميزة استخباراتية اقتصادية، إذ تمكّنها من مراقبة حركة السوق وتعطيل مصانع محددة عبر رفض تراخيص التصدير.
وقال الباحث الاقتصادي الفرنسي تيري ماير: "ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة توريد، بل تجسيد لتحول استراتيجي عالمي في موازين القوة الصناعية".
وأضاف أن القرار الصيني، الذي يدخل حيز التنفيذ في 8 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يعيد رسم خريطة النفوذ الصناعي في العالم، ويضع القارة الأوروبية أمام سؤال وجودي: كيف يمكنها تأمين مواردها الاستراتيجية دون الارتهان لبكين؟
وأشار إلى أن المعادن النادرة أصبحت بالنسبة للصناعات الحديثة بمثابة النفط في القرن العشرين، "ومن يملكها يملك مفتاح المستقبل الصناعي".
وأكد ماير أن تبعية أوروبا للصين بلغت مستويات مقلقة، إذ يأتي نحو 70% من احتياجات الاتحاد الأوروبي إما من الصين مباشرة أو عبر سلاسل إمداد خاضعة لها، ما يجعل القارة في موقع ضعف هيكلي، لأن أي توتر سياسي أو تجاري يمكن أن يشل صناعات بأكملها.
وأوضح الباحث أن التحدي أمام أوروبا مزدوج: «من جهة تواجه القارة فجوة تكلفة تتراوح بين 20 و40% مقارنة بالصين، ومن جهة أخرى خطر التضخم الصناعي الناتج عن ارتفاع أسعار المواد الخام أو تعطل سلاسل التوريد، ما قد يؤدي إلى تباطؤ النمو الصناعي وارتفاع أسعار المنتجات النهائية».
وتابع: "الاتحاد الأوروبي يتحرك في الاتجاه الصحيح عبر قانون المواد الخام الحرجة ودعم المشاريع الوطنية في فرنسا وألمانيا، لكنه لا يزال يفتقر إلى رؤية صناعية شاملة تجمع التمويل والابتكار والبحث في مجالات إعادة التدوير والاستخراج النظيف. إذا لم يحدث ذلك سريعًا، ستظل أوروبا في موقع التابع لا القائد".
وأضاف ماير أن "السيادة الصناعية الأوروبية يجب أن تكون الهدف الأول خلال السنوات الخمس المقبلة. المطلوب ليس الانفصال عن الصين، بل بناء توازن جديد في العلاقة، قائم على الشراكة لا التبعية".
وفي خضم هذه "الحرب الاقتصادية الصامتة"، تبدو القارة العجوز أمام تحدٍ وجودي بين حاجتها إلى المواد الخام الصينية وسعيها إلى حماية أمنها الصناعي.
وتسيطر الصين اليوم على نحو 90% من عمليات التكرير وأكثر من 60% من الاستخراج العالمي، وفق وكالة الطاقة الدولية، ما يمنحها موقعًا احتكاريًا شبه مطلق في سوق يُتوقع أن ترتفع فيه الطلبات بنسبة 60% خلال 15 عامًا.
وفي مواجهة هذا الواقع، أطلقت أوروبا عدة مشاريع استراتيجية للحد من تبعيتها، أبرزها افتتاح أكبر مصنع للمغناطيسات الدائمة في أوروبا بمدينة نافرا بإستونيا، تديره شركة Neo Performance Materials الكندية بدعم من الاتحاد الأوروبي بقيمة 14.5 مليون يورو.
ويهدف المصنع إلى إنتاج ألفي طن سنويًا في مرحلته الأولى، ترتفع لاحقًا إلى خمسة آلاف طن لتزويد مصانع السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح.
وفي فرنسا، تم إحياء مصفاة سولفاي في لاروشيل لإنتاج المغناطيسات مجددًا بعد عقدين من التوقف، إلى جانب مشروعين جديدين في مدينة لاك لتكرير المعادن النادرة.
غير أن الخبراء يحذرون من أن هذه المشاريع، رغم أهميتها، تحتاج إلى سنوات قبل أن تؤتي ثمارها.
اعتمد الاتحاد الأوروبي عام 2023 قانون "المواد الخام الحرجة" الذي يهدف إلى استخراج 30% من المعادن داخل أوروبا، وتكرير 40% منها محليًا، وتغطية 25% من الطلب عبر إعادة التدوير بحلول عام 2030.
لكن الواقع يُظهر أن هذه الأهداف لا تزال بعيدة المنال في ظل الفجوة التكنولوجية وارتفاع التكلفة الإنتاجية مقارنة بالصين.
وأحد أبرز المخاوف لدى الصناعيين الأوروبيين هو أن النظام الصيني الجديد يمنح بكين نظرة دقيقة على خطط الإنتاج الأوروبية.