لماذا «تعجز» ألمانيا عن إعادة تسليح نفسها؟
تحوّل إلغاء مؤتمر صحفي حكومي في 13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، كان مقرراً للإعلان عن مشروع قانون لتوسيع نطاق التجنيد العسكري،
إلى مؤشر على «هشاشة» المشروع الدفاعي الذي يطمح المستشار فريدريش ميرتس.
هذا ما أكده موقع مجلة «ريسبونسبول ستيت كرافت» الأمريكي، مشيرًا إلى أن الخلاف بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي والاتحاد الديمقراطي المسيحي/والاتحاد الاجتماعي المسيحي فجر أزمة مفاجئة داخل الائتلاف الحاكم، ما أجبر الحكومة على تأجيل الإعلان في اللحظة الأخيرة - في واقعةٍ كشفت عمق الانقسام داخل الطبقة السياسية الألمانية حول مستقبل الأمن والدفاع.
ومنذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022، أدركت أوروبا هشاشتها الاستراتيجية واعتمادها شبه الكامل على المظلة الأمنية الأمريكية. ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع 2025، تصاعد الضغط على الحلفاء الأوروبيين لتحمّل النصيب الأكبر من الأعباء الدفاعية.
ترامب، الذي يتعامل مع الحرب الأوكرانية ببراغماتية اقتصادية، أعلن في يوليو/تموز الماضي رفضه تقديم مساعدات مجانية لكييف بعد الآن، بل سيبيعها الأسلحة - شريطة أن يدفع الأوروبيون الفاتورة. وفي الوقت نفسه، سمح بتوسيع التعاون الاستخباراتي لدعم هجمات أوكرانية أعمق داخل الأراضي الروسية، وفرض عقوبات إضافية على قطاعي النفط والطاقة في روسيا.
ووفقاً لمعهد كيل الألماني، تلقت أوكرانيا منذ بداية الحرب 130 مليار دولار من المساعدات الأمريكية مقابل 166 مليار دولار من أوروبا، دون احتساب الأعباء غير المباشرة مثل إيواء اللاجئين وارتفاع تكاليف الطاقة.
ورغم تفوق الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا على نظيره الروسي بعشرة أضعاف ويبلغ أكثر من 20 تريليون دولار، فإن القارة العجوز ما زالت تنفق على دفاعها أقل من 2% من هذا الناتج.
وفي عام 2024، بلغ الإنفاق العسكري الروسي 145 مليار دولار، مقابل 400 مليار دولار لدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، وهو رقم لا يعكس القدرات الاقتصادية الهائلة المتاحة لو وُجدت الإرادة السياسية الموحدة.
وعود ميرتس… وحدود الواقع
وعندما تولى ميرتس منصبه أعلن عن "تحول أمني أوروبي جديد" تقوده ألمانيا بالشراكة مع فرنسا. واتخذ خطوة جريئة بإلغاء قيد الدَّين الدستوري الذي يمنع الحكومة من تجاوز اقتراض نسبته 0.35% من الناتج المحلي، متعهداً بمضاعفة ميزانية الدفاع ثلاث مرات خلال خمس سنوات.
لكن هذه الخطوة مثلت تراجعاً عن وعد انتخابي سابق بعدم المساس بالقيد المالي، ما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والاقتصادية.
جوهر الخطة الدفاعية الألمانية يتمثل في رفع عدد القوات المسلحة من 182 ألفاً إلى 260 ألفاً، عبر نظام يقوم على التطوع بالأساس، مع تسجيل إلزامي لكل الذكور البالغين 18 عاماً، وإجراء قرعة إجبارية إذا لم يتحقق العدد المطلوب.
غير أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي رفض هذا البند، معتبراً أنه يتنافى مع مبدأ التطوع ويهدد بتأزيم العلاقة بين الدولة والمجتمع.
يُذكر أن ألمانيا ألغت التجنيد الإجباري عام 2011، ولا تطبقه حالياً سوى عشر دول أوروبية بنسب تجنيد متفاوتة بين 8 و80 في المئة. ولذلك، فإن إعادة تفعيله يمثل تحولاً ثقافياً وسياسياً عميقاً، أكثر من كونه مجرد قرار إداري.
بين الطموح والفوضى الهيكلية
تحاول حكومة ميرتس تبرير زيادة الإنفاق الدفاعي باعتباره محركاً لإنعاش الاقتصاد الألماني المتعثر، الذي سجل عامين متتاليين من النمو السلبي (2023–2024) بسبب أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب في أوكرانيا.
وتقول وزيرة الاقتصاد كاثارينا رايش إن "إعادة التسلح تمثل فرصة اقتصادية وتكنولوجية لألمانيا"، مشيرة إلى أن نصف عقود المشتريات الدفاعية الجديدة تذهب إلى الشركات الألمانية.
لكن خبراء الاقتصاد والأمن في بروكسل يرون في هذا النهج تكريساً لتجزئة الصناعة الدفاعية الأوروبية التي تُعد أحد أبرز معوقات الكفاءة والجدوى.
وبحسب دراسة لمعهد بروغل، تنتج شركات القارة تسعة أنواع مختلفة من الطائرات المقاتلة، وأربعة أنواع من الدبابات، و16 فرقاطة، و17 ناقلة جند مدرعة - مقارنة بالولايات المتحدة التي تمتلك أربعة أنواع فقط من المقاتلات ونموذجاً موحداً لكل من الدبابات والفرقاطات وناقلات الجند.
نتيجة هذه الفوضى الهيكلية واضحة في الكلفة: يبلغ سعر مدفع هاوتزر بي زد إتش 2000 الألماني نحو 17 مليون يورو، أي عشرة أضعاف نظيره الأمريكي إم 109، بينما تتجاوز كلفة دبابة ليوبرد2 إيه8 ضعف كلفة إم1 إيه2 أبرامز الأمريكية.
العقبة الأعمق
بعيداً عن الأرقام والسياسات، تواجه ألمانيا عقبة ثقافية متجذّرة في وعيها الجمعي والمتمثلة في النزعة السلمية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحت جزءاً من هويتها السياسية.
هذه النزعة، إلى جانب الخلافات الحزبية حول العلاقة مع واشنطن وموسكو، تجعل أي تحوّل نحو "عسكرة السياسة الخارجية" أمراً محفوفاً بالمخاطر. وحتى داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي نفسه، تتباين المواقف بين جناح يرى ضرورة التحديث العسكري، وآخر يخشى من تكرار أخطاء الماضي.
وفي المحصلة، تبدو خطة ميرتس لإعادة بناء القوة العسكرية الألمانية محاصرة بين واقع اقتصادي متباطئ، وانقسام سياسي حاد، وثقافة مجتمعية تميل إلى الحذر والسلام.