أزمة المياه في إيران منطلق لأزمات اجتماعية وسياسية أوسع نطاقا

وكالة أنباء حضرموت

 مع إعلان جفاف ثلاثة خزانات مياه رئيسية واقتراب ثمانية أخرى من المصير ذاته الثلاثاء، تدخل إيران مرحلة جديدة من أزمتها المائية، التي لم تعد مجرد حالة طارئة ناتجة عن تراجع معدلات هطول الأمطار أو تغيّرات مناخية عابرة، بل باتت تمثّل أزمة بنيوية عميقة، تهدد بتفكيك أسس الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وربما السياسي أيضا.

وعلى الرغم من القيود الصارمة التي فرضتها السلطات الإيرانية على استخدام المياه، تشير المؤشرات الرسمية إلى تدهور حاد في نسب التخزين المائي، بانخفاض يتجاوز 25 في المئة مقارنة بالعام الماضي.

وتُعد العاصمة طهران، التي تضم أكثر من 15 مليون نسمة، من أكثر المناطق عرضة للخطر، وسط تحذيرات من احتمالية نفاد مياه الشرب بحلول أكتوبر المقبل.

وبموازاة ذلك، لا تقلّ الصورة قتامة في المحافظات الأخرى، لاسيما الوسطى والجنوبية الغربية، مثل أصفهان وخوزستان، التي تعاني من تاريخ طويل من شحّ المياه وتدهور البنية التحتية. لكن ما يُضفي طابعا كارثيا على الأزمة هو التقاطع بين التغير المناخي والخلل العميق في إدارة الموارد المائية.

الارتباط بين ندرة المياه والاستقرار الاجتماعي لم يعد افتراضا نظريا، بل حقيقة ملموسة تتجلّى في الواقع اليومي للملايين من الإيرانيين

وتفتقر إيران إلى سياسة مائية مستدامة، حيث طغى لسنوات منطق السيطرة والهندسة الهيدرولوجية (من خلال بناء السدود وتحويل الأنهار) على أساليب التكيّف الطبيعي مع الندرة المائية.

وقد أدى الإفراط في استخراج المياه الجوفية، دون رقابة حقيقية، إلى استنزاف الأحواض المائية، بينما استُخدمت السياسات المائية في بعض الأحيان كأداة للنفوذ السياسي الداخلي، ما عزز الإحساس بعدم العدالة في توزيع الموارد.

ويرى محللون أن الارتباط بين ندرة المياه والاستقرار الاجتماعي لم يعد افتراضا نظريا، بل حقيقة ملموسة تتجلّى في الواقع اليومي للملايين من الإيرانيين. وفي المناطق الريفية التي كانت تعتمد تاريخيا على الزراعة كثيفة الاستهلاك للمياه، لم يعد ممكنا الحفاظ على نمط حياة مستقر.

ويدفع انعدام البدائل الاقتصادية، إلى جانب تراجع الدعم الحكومي وتضاؤل فرص العمل، الآلاف من العائلات إلى النزوح نحو المدن الكبرى، التي تعاني أصلا من الاكتظاظ وسوء الخدمات وارتفاع معدلات البطالة. ولم تضعف الهجرة الداخلية فقط البنية الاقتصادية للريف الإيراني، بل تخلق ضغوطا إضافية على المدن التي لم تُصمَّم لتستوعب هذا التوسع السكاني السريع.

وقد أدى ذلك إلى تفاقم أزمات السكن، والتعليم، والصحة، والنقل، وأدى إلى تعميق الفجوات الاجتماعية، حيث تتزايد معدلات الفقر في الضواحي والمناطق العشوائية المحيطة بالمدن، في ظل انعدام القدرة على تأمين فرص عمل كافية أو خدمات أساسية.

ومن ناحية أخرى، أدى تقنين المياه وقطع الإمدادات بشكل متكرر إلى تآكل ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، خاصةً عندما يُنظر إلى قرارات التوزيع المائي على أنها خاضعة لاعتبارات مناطقية أو محسوبيات سياسية.

وفي مناطق مثل خوزستان وأصفهان، تحوّلت أزمة المياه إلى شرارة لاحتجاجات شعبية واسعة، شارك فيها المزارعون، والعاطلون عن العمل، والنشطاء البيئيون، ما يعكس تراكم الإحباط الشعبي وانسداد قنوات التمثيل والمساءلة.

الأزمة اختبار حقيقي لقدرة النظام على الإصلاح، والتكيّف، وإعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع

وأما على الصعيد الاقتصادي، فإن الأزمة تشكّل تهديدا حقيقيا لدورة الإنتاج والاستقرار المالي. فالمياه ليست فقط موردا حيويا للري والزراعة، بل تُعد مكونا أساسيا في سلسلة الإنتاج الصناعي، بما في ذلك الصناعات الثقيلة والبتروكيماوية التي تعتمد عليها الدولة في تحقيق إيراداتها.

ومع تفاقم شح المياه، يتراجع الإنتاج الزراعي، وتزداد الحاجة إلى الاستيراد الغذائي، ما يضغط على الميزان التجاري، ويزيد من التضخم، ويؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، في وقت تعاني فيه العملة الإيرانية من تقلبات حادة.

كما تتضرر الصناعات المعتمدة على المياه، ما يدفع بعض المصانع إلى تخفيض الإنتاج أو تسريح العمال، في ظل بيئة استثمارية غير مستقرة. ويتحول هذا الضغط الاقتصادي إلى موجة جديدة من البطالة، تُفاقم من هشاشة الاقتصاد وتضع المزيد من الضغط على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

ولا تملك إيران، التي تحتل موقعا جيوستراتيجيا مهما وتواجه تحديات خارجية عديدة، رفاهية تجاهل التهديد الداخلي المتصاعد من أزمة المياه. إذ بات واضحا أن معالجة هذه الأزمة تتطلب أكثر من حلول تقنية أو إجراءات تقنين مؤقتة. ما تحتاجه البلاد هو إصلاح جذري لمنظومة إدارة الموارد الطبيعية، يستند إلى مبادئ الشفافية، والمساءلة، والتوزيع العادل، والتخطيط البيئي طويل الأمد. كما يتطلب الأمر إعادة هيكلة الاقتصاد المحلي، بما يوفّر بدائل تنموية للمناطق الريفية، ويخفف الضغط على المدن، ويعزز مناعة البلاد في مواجهة الأزمات البيئية العالمية.

ويؤكد خبراء أن أزمة المياه في إيران لم تعد مجرد إنذار مناخي، بل تحولت إلى نقطة انعطاف كبرى في المسار السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة.

ويشير الخبراء إلى أن الأزمة اختبار حقيقي لقدرة النظام على الإصلاح، والتكيّف، وإعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع. وفي حال الفشل في ذلك، قد تتحول أزمة المياه من أزمة موارد، إلى أزمة شرعية تهزّ استقرار البلاد من الداخل.