رسوم ترامب الجمركية تُضعف الحلفاء وتُقوي الخصوم في آسيا الوسطى
لا تحتل آسيا الوسطى مركزا متقدما في أجندة السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلا أنها لم تغب كليا عن الحسابات الجيوسياسية لواشنطن، لاسيما في ضوء تقاطع مصالح الولايات المتحدة مع طموحات قوى منافسة كالصين وروسيا وإيران.
غير أن المقاربة التي تبنتها الإدارة الأميركية، وخاصة ما يتعلق بسياساتها الاقتصادية، تُظهر تناقضا بين خطاب يدّعي تعزيز التجارة والفرص، وبين ممارسات ميدانية قوّضت الاستقرار الاقتصادي لحلفاء واشنطن في تلك المنطقة الحساسة.
ومنذ وصول ترامب إلى السلطة، اعتمد نهجا يقوم على فرض رسوم جمركية مرتفعة شملت دولا في آسيا الوسطى، تحت مبرر “حماية الاقتصاد الأميركي” و”تصحيح الاختلالات التجارية”. غير أن هذه الرسوم كانت لها تبعات مباشرة على اقتصادات هشّة، ما ساهم في إضعاف الشركاء بدل تمكينهم.
وفرضت واشنطن رسوما بنسبة 10 في المئة على واردات أربع دول في آسيا الوسطى، ورفعت النسبة إلى 27 في المئة بالنسبة لكازاخستان، قبل أن تُخفّفها إلى 25 في المئة لاحقًا، ما أثار استياءً ضمنيًا في الأوساط الاقتصادية والسياسية في أستانا.
إذا لم تعالج واشنطن التناقض بين خطابها الإستراتيجي وسلوكها الاقتصادي، فإنها قد تفقد فرصة بناء نفوذ مستدام
وتقول إلفيرا أيدارخانوفا في تقرير نشرته مجلة ناشونال أنتريست الأميركية إن المفارقة تكمن في أن هذه السياسة العقابية لم تُوجَّه ضد خصوم جيوسياسيين، بل أصابت في عمقها شركاء محتملين، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب أمام تعزيز نفوذ خصوم الولايات المتحدة في المنطقة، وعلى رأسهم الصين.
وبالتزامن مع تلك الرسوم، كانت بكين توسع حضورها الاقتصادي والإستراتيجي عبر مبادرة “الحزام والطريق”، مستثمرة في البنى التحتية والموارد، وموقعة اتفاقيات بمليارات الدولارات مع حكومات محلية، وبالأخص كازاخستان.
وتأتي أهمية كازاخستان من كونها تملك أكبر احتياطي معروف من معادن الأرض النادرة في آسيا الوسطى، وهي عناصر حيوية تدخل في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك الطائرات، والصواريخ، وأشباه الموصلات، والبطاريات.
ولأن الصين تسيطر حاليًا على ما يقرب من 90 في المئة من تجارة هذه المعادن عالميًا، فإن أي محاولة أميركية لتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية تمر حتماً عبر كازاخستان، مما يرفع من قيمتها الجيواقتصادية في معادلة التنافس.
ومع ذلك، فإن التعامل الأميركي مع هذه الدولة الحاسمة لم يرقَ إلى مستوى التحديات. فبدلاً من تقديم حوافز أو بناء شراكات إستراتيجية لتأمين الوصول إلى هذه الموارد الحيوية، تبنّت واشنطن سياسات تجارية عقابية جعلت من الصين شريكًا مفضلا لكازاخستان.
وعند زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ لأستانا في يونيو الماضي، تم التوقيع على اتفاقيات ضخمة لاستغلال الموارد المعدنية الكازاخية، ما عمّق اعتماد الدولة على الشراكة الشرقية، لا الغربية.
وإلى جانب الصين، لا يمكن إغفال الحضور الروسي والإيراني في المنطقة، والذي ازداد زخمًا في ظل الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021، ما قلّص من الأهمية الإستراتيجية المباشرة لآسيا الوسطى في منظور واشنطن.
لماذا كل هذا التباهي
ومثّل الانسحاب الأميركي من أفغانستان في 2021 نقطة تحول في السياسة الأميركية تجاه آسيا الوسطى. فقد أسهم في تقليص الحضور العسكري والدبلوماسي لواشنطن، مما شجع دول المنطقة على البحث عن بدائل إستراتيجية لتعويض الفراغ، خصوصاً في ظل مخاوف أمنية من انتشار التطرف العابر للحدود أو الفوضى على الحدود الجنوبية.
وقد استثمرت موسكو وبكين هذا الغياب لتعزيز وجودهما الأمني والاقتصادي، فيما بدت واشنطن غير مستعدة لإعادة صياغة سياسة إقليمية شاملة تعوض تراجع تأثيرها العسكري.
ومع أن المنطقة محاطة بأربع قوى نووية – روسيا، الصين، الهند، وباكستان – وتسعى إيران للانضمام إلى النادي النووي، فإن التعاطي الأميركي معها ظل خافتًا وموسميًا، لا يعكس حجم المخاطر أو الفرص.
وفي هذا السياق، فإن هيمنة الصين على معادن الأرض النادرة ليست مجرد تفوق اقتصادي، بل ورقة نفوذ جيوسياسية تمكّن بكين من فرض شروطها في ملفات أوسع.
ويضع الطلب العالمي المتزايد على معادن الأرض النادرة، المستخدمة في صناعات التكنولوجيا والدفاع، دول آسيا الوسطى، وعلى رأسها كازاخستان، في قلب منافسة صامتة بين القوى الكبرى.
وفي حين أن الصين تهيمن على سلسلة التوريد العالمية، فإن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بدأ مؤخرا بمحاولات لتقليل الاعتماد على المصادر الصينية.
لكن في غياب اتفاقيات شراكة طويلة الأمد مع دول المنطقة، يظل هذا الطموح الأميركي هشًا. وعلى العكس، عقدت الصين صفقات إستراتيجية ضمنت لها الوصول إلى هذه المعادن لعقود مقبلة، مما يمنحها أداة ضغط جيوسياسي على خصومها.
وباتت دول آسيا الوسطى تنتهج سياسة خارجية أكثر براغماتية تقوم على موازنة النفوذ بين القوى الكبرى، بدل الاصطفاف الكامل مع طرف دون آخر.
واشنطن فرضت رسوما بنسبة 10 في المئة على واردات أربع دول في آسيا الوسطى، ورفعت النسبة إلى 27 في المئة بالنسبة لكازاخستان، قبل أن تُخفّفها إلى 25 في المئة لاحقًا
وعلى سبيل المثال، تسعى كازاخستان وأوزبكستان للحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة والصين وروسيا في الوقت نفسه.
وهذا “الحياد النشط” يعقّد مهمة واشنطن التي اعتادت، في العقود الماضية، بناء تحالفات ثنائية واضحة المعالم. واليوم، تحتاج الولايات المتحدة إلى إستراتيجية أكثر تعقيدا، تعترف بتعدد الأقطاب وتقدم شراكات مرنة لا تقوم فقط على منطق العقوبات والضغوط.
وإذا لم تتدارك واشنطن موقعها في آسيا الوسطى، وتعالج التناقض بين خطابها الإستراتيجي وسلوكها الاقتصادي، فإنها قد تفقد نهائيًا فرصة بناء نفوذ مستدام في منطقة تُعدّ من أكثر مناطق العالم حساسية من حيث الموارد والموقع الجيوسياسي.
وبينما تُؤكد إدارة ترامب أنها تقدّم “الاستثمار على المساعدات”، فإن انحسار أدوات القوة الناعمة الأميركية، من خلال تفكيك برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في المنطقة، يفسح المجال أمام خصومها لتعزيز حضورهم الاقتصادي والسياسي، مستفيدين من ضعف الالتزام الأميركي واستمرار السياسات التجارية العدائية.
وتقع آسيا الوسطى على تقاطع طرق بين روسيا في الشمال، الصين في الشرق، إيران في الجنوب الغربي، وأفغانستان جنوبًا، وهي منطقة تشهد تقلبات أمنية حادة.
وقد يؤثر عدم الاستقرار في هذه المنطقة على أمن الطاقة العالمي، ويهدد مشاريع البنية التحتية، كما يمنح القوى المعادية لواشنطن فرصة لاستغلال الفوضى.
ومن هذا المنطلق، فإن أمن آسيا الوسطى ليس مسألة محلية، بل قضية ذات تداعيات إقليمية ودولية، تتطلب من الولايات المتحدة إعادة تقييم أدوات نفوذها، بما في ذلك دعم الحكومات في مجالات الحوكمة والاقتصاد والاستقرار الأمني.