دخول مبكر للمال السياسي على خط الانتخابات العراقية
تسير التحضيرات للدورة الانتخابية الجديدة في العراق بالتوازي مع المخاوف الجدية من التزوير والتحذيرات الكثيفة منه بعد ظهور مؤشرات حقيقية عليه بشكل مبكّر قياسا بالدورات السابقة، وذلك في دلالة على الأهمية الاستثنائية للاستحقاق المقرّر لشهر نوفمبر القادم بالنسبة إلى القوى المرشحة لخوضه والراغبة في ضمان مواقعها في السلطة وإعادة تموضعها في المشهد السياسي عموما، في ظلّ ظروف محلية وإقليمية متغيرة تخشى تلك القوى أن تلقي بظلالها على الساحة الداخلية وتؤثر بالتالي على مكانتها في حكم البلد.
ولاحت خلال الأيام الماضية أدلة على دخول مبكّر للمال السياسي على خطّ الانتخابات جنبا إلى جنب مع النفوذ السياسي وسلاح الميليشيات وسطوتها على المنتسبين للفصائل المختلفة وحتى على عائلاتهم التي تحصل على بعض الامتيازات المالية من وراء ذلك الانتساب.
وكشف نائب في البرلمان العراقي عن الانطلاق الفعلي للسوق السوداء لبيع بطاقات الاقتراع، بينما حذّر زعيم أحد التيارات السياسية المرشحة لخوض الانتخابات من ضياع الاستحقاق بسبب التزوير.
وحذّر عمار الحكيم زعيم تيار الحكمة من استخدام المال السياسي “الحرام” في انتخابات نوفمبر القادم التي وصفها بالتاريخية، مشددا على ضرورة عدم تضييعها.
وفي مظهر عملي على واقعية ذلك التحذير كشف عضو لجنة النزاهة بمجلس النواب العراقي هادي السلامي عن بلوغ سعر بطاقة الاقتراع في بغداد أكثر من 380 دولارا أميركيا.
ونقلت شبكة رووداو الإعلامية عن السلامي قوله “الموضوع خطير جدا. ونحن نسمع في أماكن عدة الحديث عن شراء وبيع الأصوات وبطاقات الاقتراع. وهذا يشكّل تهديدا حقيقيا ويجب اتخاذ إجراءات عاجلة لمنعه،” موضّحا أن “البطاقات تُباع وتُشترى بأساليب مختلفة، وحسب المعلومات المتوفرة لدينا فإن السعر في بغداد وصل إلى خمسمئة ألف دينار للبطاقة الواحدة.”
وأشار إلى أن اللجنة طلبت من الأجهزة الأمنية والجهات الرقابية “التحرّك العاجل والتحقيق في هذه الظاهرة ووضع حدّ لها بشكل فوري.”
ونقلت الشبكة أيضا عن النائب في البرلمان العراقي شيروان الدوبرداني قوله “في الموصل سمعنا مرارا عن هذه القضية، وهي واقعية تماما. هناك حديث عن بيع بطاقة الاقتراع بأسعار تتراوح بين خمسة وسبعين ألفا وثلاثمئة ألف دينار.”
وأضاف “نحن متأكدون من أن هذه الظاهرة موجودة في جميع المحافظات، لكن المفوضية (المفوضية العليا المستقلة للانتخابات) تنفي باستمرار وتقول إنها بعيدة عن الواقع.”
وترغب الأحزاب والفصائل العراقية، وجلها ينتمي إلى المحور الإيراني أو مقرّب منه، من وراء خوضها للانتخابات في تجديد هيمنتها على مقاليد الحكم بعد التراجعات التي شهدها نفوذ ذلك المحور والدولة القائدة له في سوريا المجاورة بسقوط نظام بشار الأسد وأيضا في لبنان بارتخاء قبضة حزب الله على السلطة هناك، لكن قيادات بعض تلك القوى تبدو معنية أيضا بالحفاظ على حدّ أدنى من شرعية النظام ومن جماهيريته المتآكلة بسبب عدّة عوامل من بينها الضرر الذي ألحقه التزوير بمصداقية الانتخابات.
وعلى هذه الخلفية جاءت دعوة زعيم تيار الحكمة إلى تأسيس “ميثاقِ شرف وطنيِ تتعهد به جميع الكتل السياسية بعدم استخدام المال كسلاح انتخابي، وأن تُوضع المصلحةُ العليا فوق كل اعتبار،” إذ “من المعيب”، بحسب تعبيره، “أن يكون هناك سوق وبورصة لشراء المرشحين والناخبين معا، فهذا سحت ومال حرام وخيانة للوطن والشعب.”
وغالبا ما لا تحظى تحذيرات الكثير من قادة القوى السياسية المشاركة في الانتخابات العراقية بقدر عال من المصداقية، إذ أنّ معظم تلك القوى لا يخرج من دائرة الاتهامات باستخدام وسائل جانبية غير مشروعة للحصول على نتائج إيجابية عليها تتوقف قدرة الكثير من قادة الأحزاب والفصائل المسلحة على الحفاظ على امتيازاتهم السياسية وما وراءها من مكاسب مادية.
وتبدو مهمة الحفاظ على تلك المكاسب وتدعيمها من خلال الدورة الانتخابية الجديدة أكثر تعقيدا بسبب المتغيرات المذكورة وكثرة المتنافسين في انتخابات نوفمبر القادم وتراجع شعبية القوى التي تضررت سمعتها خلال مشاركتها بشكل رئيسي في السلطة بسبب الفساد والعنف والفشل الاقتصادي والاجتماعي والتنموي والخدمي للدولة.
ومن هذا المنطلق سيكون التعويل في الانتخابات على الوسائل الجانبية غير المشروعة أمرا مؤكّدا، ومستعجلا أيضا، وهو ما بدأ يُلمس من خلال الانتشار الملحوظ على المنصات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي لتسجيلات صوتية منسوبة إلى سياسيين وقادة فصائل مسلحة تتعلق بعروض وصفقات لشراء أصوات الناخبين، وأحيانا بعمليات ترغيب وترهيب لهم من أجل التصويت لجهات معينة.
وكمثال على ذلك تمّ خلال الأيام الماضية تداول تسريب صوتي منسوب إلى قيادي في ميليشيا عصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي وهو يهدد مجموعة من مقاتلي العصائب لم تقم بتحديث سجلاتها الانتخابية.
خلال الأيام الماضية لاحت أدلة على دخول مبكّر للمال السياسي على خطّ الانتخابات جنبا إلى جنب مع النفوذ السياسي وسلاح الميليشيات
وبحسب التسريب نفسه منح القيادي المذكور مهلة زمنية قصيرة لأفراد تلك المجموعة لاستكمال تحديث بياناتهم، مطالبا بتسليم قادة المفارز قوائم بأسماء المقاتلين مرفقة بنسخ من استمارات تحديث البيانات إضافة إلى استمارات الحصة التموينية، وذلك لمعرفة من قام بتحديث بياناته ومن لم يفعل.
كما وجه القيادي في العصائب أوامر خلال التسجيل الصوتي لجميع عائلات المقاتلين بالتصويت لمرشحي الميليشيا نفسها، مهدّدا أي مقاتل لا يلتزم هو وعائلته بهذه التعليمات بالفصل والحرمان من راتبه.
وتتسع “سوق” شراء الأصوات الانتخابية لتشمل الجامعات وطلبتها وأطرها حيث أظهر تسريب صوتي آخر أستاذا في جامعة أهلية تعود ملكيتها إلى قيادي بارز في الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم وهو يعرض على الطلبة منحهم درجات دراسية وتسهيلات مالية في مقابل تصويتهم مع عائلاتهم لمصلحة ذلك القيادي.
وعلى الرغم من تواتر المؤشرات بشكل مبكر حول إمكانية حدوث تزوير على نطاق واسع في الانتخابات العراقية القادمة، إلا أن الهيئة المكلفة بالإشراف على الاستحقاق ممثلة بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات تتمسّك بسلامة وفاعلية إجراءاتها للتصدي للظاهرة ومنعها، معتبرة على لسان رئيستها جمانة الغلاي ما يروج من تحذيرات وتسريبات مجرّد مزاعم لا يمكن الجزم بصحّتها.