تصاعد الصراع يكشف عن واقع الاستقرار الزائف والإهمال الدولي في ليبيا
يرى محللون أن تصاعد الصراع في طرابلس يكشف عن واقع الاستقرار الزائف والإهمال الدولي في ليبيا. ويشير المحللون إلى أن ما شهدته العاصمة الليبية طرابلس من تصاعدٍ مفاجئ في العنف، عقب مقتل عبدالغني الككلي قائد إحدى أبرز الجماعات المسلحة والمعروف باسم “غنيوة”، ليس حادثًا معزولًا ولا مجرد تصفية داخلية بين الفصائل؛ بل هو تجلٍّ صريح لانهيار النموذج الذي فُرض على ليبيا منذ عام 2020، حين رُوّج لاتفاق وقف إطلاق النار كخطوة نحو الاستقرار، فيما كانت الأرضية الواقعية تقوم على تسويات هشة، وصفقات قصيرة النظر بين فاعلين مسلحين، تحكمهم المصالح أكثر من القانون، وتربطهم الدولة برباط التمويل لا الانضباط.
وتقول تيم إيتون، زميل باحث أول ضمن برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد تشاتام هاوس، إن مقتل الككلي، بدمويته وتداعياته، أعاد تسليط الضوء على حقيقة أن طرابلس، رغم سنوات من “الهدوء النسبي”، كانت تُدار بمنطق توزيع النفوذ أكثر من منطق الحكم المؤسسي.
ولم يكن غنيوة فقط قائدًا أمنيًا، بل أحد الأعمدة التي قامت عليها معادلة “الاستقرار الزائف” التي دعمتها قوى دولية بشكل مباشر أو ضمني، إما بالصمت أو برعاية ترتيبات لم تعالج جوهر الأزمة الليبية.
ما يجري في العاصمة طرابلس ليس نتيجة خلل محلي فقط، بل نتاج منظومة دولية تغاضت عن تقاسم الفساد والعنف
ومنذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار لم تتجه الجهود الدولية نحو تفكيك المنظومة الموازية التي تسيطر فعليًا على مفاصل الحكم، بل جرت محاولة إعادة تدويرها داخل مؤسسات الدولة، عبر دمج قادة الميليشيات في أجهزة أمنية وإدارية، دون مساءلة أو إصلاح.
والنتيجة كانت منظومة مزدوجة: دولة قائمة شكليًا، وسلطة فعلية بيد أمراء الحرب. وقد مثّل غنيوة أحد أبرز الأمثلة على هذا التواطؤ المؤسسي، حيث امتد نفوذه إلى مصرف ليبيا المركزي، وديوان المحاسبة، بل وحتى قطاع الاتصالات، في غياب أي رقابة مركزية حقيقية.
وكشف تصاعد الأحداث بعد مقتله كم كان هذا البناء هشًا. فالمجموعة التي كان يقودها، والمُدمجة اسميًا في مؤسسات الدولة، انهارت بمجرد غيابه، وظهرت فراغات أمنية خطيرة تحركت فيها قوى محلية وإقليمية، ما زاد من تعقيد المشهد ودفع نحو سيناريوهات مفتوحة على المزيد من الصدامات.
وفي مقابل ذلك بدت حكومة الوحدة الوطنية، المدعومة دوليًا، عاجزة عن السيطرة أو فرض معادلة أمنية متماسكة.
وفشلت محاولات اللواء 444 لبسط السيطرة، وانهارت حسابات احتواء الوضع السريع. وبدل أن تتماسك جبهة الدبيبة، بدأت الانقسامات تتسع حتى داخل محيطه السياسي، لاسيما من مدينة مصراتة التي بدأ فاعلون فيها بالتبرؤ من نهج الحكومة.
أما المجلس الرئاسي فاختار النأي بنفسه عن إعادة هندسة القطاع الأمني، ما يعني فعليًا إضعاف أي مشروع حقيقي لإعادة بسط سيادة الدولة.
ولم يكن هذا المشهد ليصل إلى هذه الدرجة من التعقيد لولا الإستراتيجية الدولية قصيرة الأمد تجاه ليبيا. فبعد 2020 اعتمدت بعثة الأمم المتحدة للدعم، إلى جانب القوى الغربية، على مقاربة تفضّل الاستقرار السطحي على التغيير الحقيقي، انطلاقًا من فرضية أن تثبيت الوضع القائم، حتى وإن تخلله فساد وتقاسم للسلطة بين الميليشيات، هو الطريق الأسهل نحو تسوية سياسية. لكن هذا المنطق أدّى عمليًا إلى تحصين الفاعلين المسلحين، وتمكينهم أكثر داخل بنية الدولة، وتقويض أي أفق لبناء مؤسسات شرعية وموحدة.
واليوم، يدفع الليبيون ثمن هذا الإهمال. فقد تفجّر الصراع مجددًا في العاصمة، والهدوء الحذر لا يخفي حقيقة أن الأزمة بنيوية، وأنها أبعد ما تكون عن الحل. وإن كان مقتل الككلي قد أزاح فاعلًا من المشهد، فهو في الوقت ذاته أطلق سباقًا جديدًا على السلطة والنفوذ، وسط مؤسسات مخترقة، وحكومة بلا أدوات فعلية للسيطرة.
والحقيقة التي يصعب تجاهلها أن ما جرى في طرابلس ليس نتيجة خلل محلي فقط، بل نتاج منظومة دولية تغاضت عن تقاسم الفساد والعنف، وشرعنت نخبة تحكم دون أن تحكم، وتقاتل دون أن تُحاسب. وكلما طالت هذه الصيغة، زاد عمق الأزمة، وتكررت الانفجارات.
واستمرار تجاهل الحاجة إلى إصلاح جذري ومأسسة السلطة ووضع حد لعسكرة الدولة سيُبقي ليبيا رهينة لدوامة دموية تعيد إنتاج نفسها كل بضع سنوات.
وما لم يتحول الدرس المستخلص من سقوط “الاستقرار الزائف” إلى مسار سياسي جديد، فالأرجح أن ما شهدته طرابلس لن يكون نهاية مرحلة، بل بداية لفوضى جديدة.
ولم يكن تصاعد العنف في العاصمة الليبية نتيجة مفاجئة، بل هو نتاج سنوات من التراكمات التي تعود إلى اللحظة التي أعقبت سقوط نظام معمر القذافي في 2011، حين فشلت النخب المحلية والدولية في تأسيس مشروع دولة مدنية متماسكة.
وبدلًا من بناء مؤسسات أمنية وطنية، تُركت البلاد رهينة مجموعات مسلحة تشكّلت على أساس مناطقي وأيديولوجي، وتحولت تدريجيًا إلى مراكز قوة بديلة عن الدولة، تتقاسم النفوذ والثروة.
وخلال عقد مضطرب تم تدويل الصراع الليبي بأشكال متعددة، بدءًا من التدخلات العسكرية المباشرة (كما حدث في 2011)، مرورًا بالتدخل غير المباشر عبر دعم أطراف متنافسة بالسلاح والمال، وصولًا إلى رعاية تفاهمات سياسية سطحية لم تستند إلى إصلاحات حقيقية. وقد شجّعت هذه الديناميكيات على ترسيخ سلطة أمراء الحرب المحليين، بدلًا من إضعافهم أو ضمّهم إلى بنية مؤسسية خاضعة للمساءلة.
وإحدى الإشكاليات المركزية في التعامل الدولي مع ليبيا كانت الاعتقاد بأن تأجيل الحلول الصعبة، مثل إصلاح قطاع الأمن أو تفكيك اقتصاد الظل، سيتيح انتقالًا سلسًا للسلطة. لكن ما حدث هو العكس تمامًا: تم تمكين شبكات النفوذ وتوسيع دائرة الفساد، في ظل صمت دولي مريب. وبينما أُغدقت الأموال على مسارات المصالحة الشكلية تُرك السلاح بيد جماعات لا تعترف بشرعية الدولة إلا عندما تُمنح حصة منها.
ومثل الانقسام المؤسسي بين شرق البلاد وغربها بدوره أرضا خصبة للفوضى. ففي حين بنى القائد العام للجيش الوطني الليبي خليفة حفتر هيكلًا سلطويا في الشرق يستند إلى خطاب عسكري مركزي، واجه الغرب الليبي انقسامات بين جماعات مسلحة تتفاوت ولاءاتها وارتباطاتها، دون أن تنجح الحكومات المتعاقبة، بما فيها حكومة الوحدة الوطنية، في فرض سلطة فعلية على هذه الجماعات. وهذا التباين في أنماط السيطرة خلق بيئة سياسية وأمنية مختلّة، لم يعالجها أي مسار سياسي دولي بجدية كافية.
مجلس الأمن وبعثة الأمم المتحدة فشلا في فرض أي أدوات تنفيذية لقراراتهما، سواء تلك المتعلقة بحظر السلاح أو بمساءلة المتورطين في جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان
وفي المقابل فشل مجلس الأمن وبعثة الأمم المتحدة في فرض أي أدوات تنفيذية لقراراتهما، سواء تلك المتعلقة بحظر السلاح أو بمساءلة المتورطين في جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان.
وتحوّلت القرارات الدولية إلى نصوص غير ملزمة، وسحبت تدريجيا أوراق الضغط من يد البعثة الأممية، حتى بات دورها أقرب إلى الوساطة الإدارية بين أطراف لا تملك إرادة التنازل.
وبموازاة ذلك حرصت قوى إقليمية على استخدام ليبيا كساحة لتصفية الحسابات. فتركيا وروسيا وقوى أوروبية، كفرنسا وإيطاليا، ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في إدامة الانقسام، عبر دعم فصائل بعينها أو تعطيل مسارات التسوية التي لا تخدم مصالحها الاقتصادية أو الجيوسياسية. وقد قاد هذا التنافس إلى حالة شلل سياسي، جعلت من ليبيا ساحة نزاع مفتوح بدلًا من دولة ذات سيادة.
ويُضاف إلى ذلك أن غالبية مبادرات الحل السياسي اعتمدت مقاربة النخبة فقط، بإشراك شخصيات وقادة جماعات نافذة دون قاعدة شرعية واسعة، متجاهلة القاعدة الاجتماعية الأوسع، التي لم تجد لنفسها تمثيلًا فعليًا في طاولات التفاوض.
وأغفل هذا النهج أن الاستقرار لا يُبنى فقط عبر التفاهمات العليا، بل بترميم العقد الاجتماعي الذي انهار منذ سنوات.
وفي ضوء هذه الخلفيات، يبدو ما حدث في طرابلس نتيجة حتمية لمسار طويل من الإهمال البنيوي. فغياب مشروع وطني جامع، وتغليب مصالح ضيقة محلية وخارجية، وإدامة حلول مؤقتة على حساب بناء الدولة، كلها عوامل هيأت الأرضية لانفجار جديد، لا يُتوقع أن يكون الأخير ما لم يُعاد النظر في مجمل مقاربة الأزمة الليبية.