شبكات تمويل حزب الله.. «وكر أفاعي» في قلب أمريكا الجنوبية
في قلب أمريكا الجنوبية، حيث تتشابك الغابات الكثيفة مع دروب التهريب، وتتماهى الحدود بين القانون والفوضى، تتمدد شبكات تمويل حزب الله كما لو كانت «وكر أفاعي» معقّد ومتداخل، لا يُرى بالعين المجرّدة لكنه يضخّ الحياة في جسد التنظيم.
هناك في «منطقة الحدود الثلاثية» بين الأرجنتين والبرازيل وباراغواي، تتكشف ملامح شبكة متشعبة تتقن التخفي خلف شركات وهمية، وتجيد التحول بين تجارة الماس والمخدرات وتزوير العملة وتهريب النفط، لتخفي وكراً يُدار بعناية لتمويل تنظيم حزب الله خارج الرقابة والخرائط.
عقوبات أمريكية جديدة تستهدف الفريق المالي لـ«حزب الله»
وما كشفته واشنطن مؤخراً من مكافأة مالية ضخمة مقابل معلومات عن هذه الشبكات، ليس سوى غيض من فيض معركة بدأت للتو، وقد لا تنتهي قريباً، وينبئ بحجم التهديد، فالمعركة هنا ليست على حدود الجغرافيا، بل على منابع التمويل ومفاتيح النفوذ في سوق الجريمة العالمية.
مكافأة أمريكية.. ومؤشر على الخطر
في خطوة تعكس تصاعد القلق الأمريكي، عرضت وزارة الخارجية عبر برنامج «مكافآت من أجل العدالة» مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار مقابل أي معلومات تؤدي إلى تعطيل الآليات المالية لشبكات حزب الله في أمريكا الجنوبية، وفق ما طالعته «العين الإخبارية» في الموقع الإلكتروني للبرنامج.
هذا الإعلان ليس مجرد تحرك أمني اعتيادي، بل رسالة سياسية تؤكد أن واشنطن ترى في هذه الشبكات تهديدًا يتجاوز النطاق الإقليمي ليبلغ عمق الأمن القومي الأمريكي والدولي.
«الحدود الثلاثية».. ملاذ خارجي لتمويل داخلي
وتقع منطقة «الحدود الثلاثية» عند التقاء الأرجنتين والبرازيل وباراغواي، وتُعرف بكونها منطقة رخوة أمنيًا، ما يجعلها بيئة مثالية لنمو الاقتصاد الموازي، وشبكات الجريمة العابرة للحدود.
لكن الأخطر أن هذه المنطقة تحولت إلى وكر حقيقي لأفاعي التمويل، حيث تشير المعلومات الاستخباراتية إلى أن حزب الله بنى فيها شبكة مترابطة من الأنشطة غير المشروعة، تشمل:
غسل الأموال بمليارات الدولارات
الاتجار بالمخدرات والأسلحة
تهريب الفحم والنفط والمعادن
تزوير العملات، وخاصة الدولار الأمريكي
تجارة السلع الفاخرة والسجائر بكميات ضخمة
استخدام جوازات سفر مزورة لتسهيل التنقل والتخفي
كل هذه الأنشطة تُدار بشكل منظم عبر واجهات مدنية كالشركات العقارية، والمكاتب التجارية، ومؤسسات الصرافة، التي تلعب دورًا مركزيًا في التمويه على مصادر الأموال وتوجيهها إلى أهداف سياسية وعسكرية تخدم أجندة الحزب وإيران.
«الشركات الواجهة».. أقنعة التمويل والتجنيد
وبعيدًا عن الصورة النمطية للتمويل غير المشروع، طوّر حزب الله منظومة مالية تعتمد على شركات «قانونية» ظاهريًا لكنها تعمل كغطاء لغسل الأموال وتمرير التمويل. هذه الشركات تشمل:
شركات البناء والمقاولات
تجارة العقارات
استيراد وتصدير السلع
تجارة الذهب والماس
تجارة التجزئة بالجملة في مناطق ذات كثافة لبنانية شيعية
هذه الشبكات التجارية، في حقيقتها، ليست فقط أداة تمويل، بل أيضًا وسيلة للتجنيد وتوسيع النفوذ المجتمعي في أوساط الجالية اللبنانية في أمريكا الجنوبية، ما يضفي بعدًا اجتماعيًا وأيديولوجيًا على النشاط المالي.
«عشيرة بركات».. رأس جبل الجليد
وواحدة من أبرز الأمثلة على الشبكة المالية لحزب الله هي «عشيرة بركات»، وتحديدًا «أسعد أحمد بركات»، الذي تُتهمه واشنطن وبوينس آيرس بقيادة عمليات مالية ضخمة لصالح الحزب، تشمل غسل الأموال وتوزيعها عبر شبكة من البنوك ومكاتب الصرافة ومراكز التحويل.
ما يميز «بركات» ليس فقط دوره المالي، بل قدرته على خلق شبكة من العلاقات المشروعة وغير المشروعة تغلغلت في النسيج الاقتصادي المحلي
لكن الأهم أن «عشيرة بركات» ليست حالة فردية، بل نموذج مكرّر لآلية التمويل الحزبي عبر العائلات والأنساب والمصالح المشتركة، ما يجعل تفكيك الشبكة أمرًا معقدًا يتجاوز الإمكانيات التقليدية لأجهزة إنفاذ القانون.
من أمريكا الجنوبية إلى طهران.. خط تمويل متعدّد الروافد
تشير التقديرات الأمريكية إلى أن حزب الله يدرّ قرابة مليار دولار سنويًا، تأتي من مزيج من:
الدعم المالي المباشر من إيران
عائدات الاستثمارات الخارجية
شبكات المانحين في المغتربات
العوائد غير المشروعة من غسل الأموال والجريمة المنظمة
وتمثل أمريكا الجنوبية، بحسب المسؤولين الأمريكيين، رافدًا أساسيًا في هذا النظام المالي، بما يجعلها بمثابة «الرئة» التي يتنفس بها الحزب في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران.
هذه الروافد لا تُستخدم فقط في تمويل النشاط العسكري، بل أيضًا في دفع رواتب الكوادر، ودعم الإعلام، وتمويل الأنشطة الاجتماعية المرتبطة بالحزب داخل وخارج لبنان، بما في ذلك مناطق النزاع مثل سوريا واليمن.
واشنطن تغيّر قواعد الاشتباك
وبطرح المكافأة، تُعيد الولايات المتحدة صياغة قواعد الاشتباك مع حزب الله من مواجهة ميدانية إلى حرب استخبارات مالية.
ولم تعد المعركة مقتصرة على المواجهات في الجنوب اللبناني أو الساحة السورية، بل امتدت إلى أسواق وشركات وواجهات تجارية على بعد آلاف الكيلومترات.
وهو تحوّل يشير إلى أن واشنطن تعي بأن سرّ قوة حزب الله لا يكمن فقط في ترسانته العسكرية، بل في قدرته على التمويل الذاتي وبناء شبكات اقتصادية تؤمّن له الاستمرارية والمرونة بعيدًا عن الأنظار.