المعركة الرمادية.. بوركينا فاسو تواجه الإرهاب بـ«سلاح الكتمان»
حرب غير تقليدية تخوضها بوركينا فاسو ضد جماعات إرهابية متعددة الولاءات، في ظل بيئة أمنية شديدة التعقيد، تتشابك فيها ساحات القتال المفتوحة مع صمت استخباراتي محكم.
ومع توالي الهجمات وتزايد الضغط الشعبي والدولي، يواجه المجلس العسكري، بقيادة الكابتن إبراهيم تراوري، معضلة إدارة حرب غير تقليدية بأساليب غير مألوفة.
استراتيجية الكتمان.. حين تُصبح السرية سلاحًا
يرى خبراء تحدّثوا لـ«العين الإخبارية» أن تأخر الردود العسكرية أو غياب التصريحات الرسمية عقب الهجمات لا يجب تفسيره بالضرورة على أنه فشل أو عجز، بل يُقرأ ضمن استراتيجية أمنية أشمل، تقوم على عنصر الكتمان المرحلي وتجنّب التفاعل الانفعالي مع حرب إعلامية تخوضها الجماعات الإرهابية بنفس الحماسة التي تخوض بها معاركها المسلحة.
الدكتور موسى كابوري، الباحث في معهد الدراسات الأمنية بباماكو والمتخصص في الحركات المسلحة بمنطقة الساحل، أوضح لـ«العين الإخبارية» أن «الانتقادات المتكررة تجاه المجلس العسكري تتجاهل الواقع الأمني المعقّد والمعارك غير المعلنة التي تخوضها القوات المسلحة يوميًا».
وأشار إلى أن «الهجوم على مدينة جيبو ليس سوى جزء من مواجهة ممتدة على عدة جبهات، وغالبًا ما تضطر القوات إلى إعادة الانتشار تكتيكيًا بدلًا من الرد الفوري، وهذا ما قد يُساء تفسيره من قبل السكان أو بعض المراقبين».
الرد المؤجل.. تكتيك أم عجز؟
تُدرك السلطات أن كل رد عسكري غير محسوب أو تصريح متسرع قد يتحوّل إلى أداة دعائية في يد الجماعات المتطرفة، ما دفع المجلس العسكري إلى تبنّي سياسة «الصمت العملياتي» في عدد من الحالات، تفاديًا للسقوط في فخ الاستدراج الإعلامي.
وفي هذا السياق، شدد كابوري على أن «عدم صدور رد فعل رسمي سريع لا يعني غياب التخطيط أو الاستجابة، بل يعكس أحيانًا رغبة في تجنّب التضليل الإعلامي الذي قد تستفيد منه الجماعات الإرهابية»، مضيفًا أن «المجلس العسكري بقيادة الكابتن إبراهيم تراوري يعتمد سياسة أمنية تقوم على الكتمان المرحلي، وهو ما ساهم في تقليص بعض الخسائر خلال الأشهر الماضية».
وتابع: «علينا أن نفهم أن هذه المعركة غير تقليدية، وأن الخطاب السياسي لا يمكن أن يكون دائمًا علنيًا»، مؤكدًا أن «الحرب على الإرهاب في بوركينا فاسو لا يمكن حسمها بالتصريحات أو عبر الإعلام، بل تحتاج إلى دعم شعبي وصبر استراتيجي، والمجلس العسكري يمضي بهذا الاتجاه بثبات رغم التحديات الهائلة».
هجوم جيبو.. اختبار واقعي لتوازنات القوة
وشكل الهجوم الذي نفذته جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» في 11 مايو/أيار الجاري على مدينة جيبو شمال البلاد، نموذجًا صارخًا لتحديات المعركة، إذ سيطر المسلحون لساعات على المدينة دون مقاومة تُذكر من القوات الحكومية، وفق شهادات محلية.
وظهر المسلحون في مقاطع مصوّرة وهم يجوبون الشوارع، في رسالة واضحة تتحدى ليس فقط الجيش، بل شرعية الدولة.
وبحسب سكان المدينة، فقد بدأ الهجوم مع شروق الشمس واستمر لساعات، في وقت وصف فيه مراقبون العملية بأنها تحمل ملامح خطة عسكرية ممنهجة، استخدمت فيها دراجات نارية وعتادًا عسكريًا خفيفًا لتجاوز التحصينات والوصول إلى مشارف قاعدة عسكرية استراتيجية تابعة للفوج 14 المشترك للأسلحة.
فجوات استخباراتية أم انكشاف بنيوي؟
في قراءة أكثر تشاؤمًا للمشهد، قال الباحث الفرنسي لوران فيجرو، من معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS) في باريس، لـ«العين الإخبارية» إن ما يحدث يُظهر أزمة بنيوية في طريقة تعامل الدولة مع التهديد الإرهابي، مشيرًا إلى أن «الجماعات الإرهابية باتت تتحرك وكأنها جيش نظامي، تمتلك معلومات دقيقة عن مواقع الجيش، وتتحرك في غياب أي تغطية استخباراتية فعالة».
وأضاف فيجرو: «إن بوركينا فاسو بحاجة عاجلة إلى تجديد بنيتها الأمنية وتحديث أدوات الرصد والمتابعة»، في إشارة إلى هشاشة المنظومة الاستخباراتية التي تتيح لهذه الجماعات حرية المناورة وتكرار الهجمات دون رادع حاسم.
حرب متعددة الجبهات.. وواقع غير متوازن
الهجوم على جيبو لم يكن حادثًا معزولًا، بل تزامن مع 9 هجمات أخرى خلال 48 ساعة، شملت مناطق متفرقة من البلاد وأسفرت عن مقتل مئات المدنيين والعسكريين، بما في ذلك في مدينة دياباغا شرقًا.
وهو ما يُبرز حجم التحديات التي تواجهها السلطات، ليس فقط من حيث الانتشار الميداني، بل من زاوية القدرة على ربط الخيوط الاستخباراتية ومواجهة العدو الذي يُغيّر تكتيكاته باستمرار.
في هذا السياق، بات المجلس العسكري، بقيادة الكابتن إبراهيم تراوري، مطالبًا بموازنة دقيقة بين ضرورة الرد السريع والفعال، وبين الاحتفاظ بعنصر المباغتة والتكتم، في معركة غير تقليدية لا تُقاس نتائجها بعدد البيانات الصادرة، بل بعدد الهجمات التي تم تفاديها في الظل.