«كوفيد ـ 19» يفاقم تداعيات «جائحة الصحة النفسية» في أوروبا

واشنطن

مع انحسار جائحة «كوفيد - 19» في معظم البلدان الغربية بفضل الحماية التي توفرها التغطية اللقاحية الواسعة والمناعة الطبيعية التي تتولد من حالات التعافي، بدأت مرحلة المراجعة والتقييم للتدابير التي اتخذتها الحكومات من أجل التصدي للوباء واحتوائه، وتحديد التداعيات الصحية التي خلفتها الأزمة وسبل معالجتها.

وبعد التقرير الذي صدر منذ يومين عن البرلمان البريطاني واعتبر أن حكومة بوريس جونسون ارتكبت أخطاء جسيمة وتأخرت في التحرك عند ظهور الوباء، ما شكل واحداً من أكبر إخفاقات الصحة العامة التي شهدتها المملكة المتحدة على الإطلاق، جاء التقرير السنوي الذي تضعه منظمة الصحة العالمية حول الصحة النفسية ليرسم «مشهداً مخيباً من الفشل في تقديم خدمات الصحة النفسية خلال جائحة (كوفيد - 19)»، ويحذر من أن التداعيات النفسية الناشئة عن الوباء قد تكون أعمق وأوسع بكثير نظراً للنزوع العام إلى التكتم بشأنها وعدم الإفصاح عنها.

وأفادت إحدى الدراسات التي استند إليها التقرير بأن أكثر من نصف العمال والموظفين الذين شملتهم، أكدوا أن الجائحة تركت آثاراً سلبية جداً على حالاتهم النفسية وأوضاعهم العاطفية، وأن 64 في المائة منهم في أوروبا عانوا خلال الأشهر الاثني عشر المنصرمة من حالات اكتئاب أو قلق شديد أو إنهاك بسبب من ظروفهم المهنية. ونقلت الدراسة عن لسان آلان ديهاز، رئيس مجموعة «آديكو» العالمية للتوظيف، أن 90 في المائة من المديرين في الشركة لم يتمكنوا من تحقيق الأهداف الدنيا في إدارة الموظفين خلال الجائحة.

وفي حديث خاص مع «الشرق الأوسط»، قالت مديرة قسم الصحة العامة في المنظمة الدولية ماريا نيرا إن «الجائحة الفعلية الآتية قريباً هي جائحة الصحة النفسية التي تدهورت بشكل غير مسبوق بسبب (كوفيد)، وما رافق الوباء من تدابير وقائية ونجم عنه من تداعيات سلبية على الصعيدين المهني والاجتماعي». ونبهت نيرا إلى أن معظم المنظومات الصحية الأوروبية تعاني من نقص في عدد الأطباء النفسانيين، وليست جاهزة لمواجهة الحاجة التي ستتزايد إلى العناية النفسية.

وتعتبر الدراسة أن الوقت ما زال مبكراً لتقدير التداعيات الحقيقية للجائحة على الصحة النفسية عموماً، لكنها تشير إلى أن استهلاك العقاقير المنومة والمهدئة للأعصاب والمسكنات ما زال يزداد باطراد منذ منتصف العام الماضي.

وتفيد بيانات المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا أن الزيارات إلى العيادات النفسية ازدادت بنسبة 20 في المائة منذ مطلع هذا العام، لكن مع العودة التدريجية إلى العمل في المكاتب والمصانع تغيرت طبيعة المعاناة التي أصبحت تظهر في شكل إحباط بعد أن كانت تنعكس إنهاكاً جائحياً. ويعود السبب في ذلك إلى أن العمل عن بعد كان مصدراً لنوعية حياة أفضل بالنسبة لكثيرين، وأن اضطرارهم فجأة للعودة إلى مراكز العمل أدى إلى مشاعر الإحباط والتذمر. يضاف إلى ذلك أن هذه العودة تواكبها الاجتماعات الافتراضية عبر منصات التواصل الإلكترونية، أو الاجتماعات الهجينة التي تجمع بين الحضور الشخصي والمشاركة عبر المنصات. وتفيد البيانات بأن حالات الاكتئاب والحزن المتراكم قد ازدادت بنسبة 40 في المائة في الآونة الأخيرة.

ومن استنتاجات الدراسات التي يستند إليها تقرير منظمة الصحة، أن مؤشرات «التوتر العالي» في العمل تضاعفت مرتين، وأحياناً ثلاث مرات، وذلك بسبب من الازدياد الكبير في الحالات التي تتطلب من الموظف أو العامل القيام بمهمة معينة في وقت محدد من غير أن يكون له أي قدرة على التأثير في مسار العمل أو ظروفه. يضاف إلى ذلك أن هذه الحالات هي أكثر خطورة عند الذين انخفضت رواتبهم بسبب الجائحة، وأن 23 في المائة من هؤلاء يتناولون أدوية منومة للمرة الأولى.

وإذ تذكر الدراسة بأن تدهور الصحة النفسية بسبب التغييرات الجذرية في ظروف العمل، أو لعدم قدرة العامل أو الموظف على التحكم بهذه الظروف، من الظواهر التي واكبت التطور الصناعي منذ بدايات القرن الماضي، تنبه إلى أن التداعيات النفسية ما زالت خارج دائرة الأمراض الناجمة عن ظروف العمل في معظم البلدان الأوروبية. وتدعو الدراسة إلى إعادة النظر في هذا الوضع، وتأطير هذه التداعيات ضمن المخاطر المباشرة على الصحة العامة، واستحداث تشريعات للتعاطي معها ومعالجتها.

وتجدر الإشارة إلى أن ما تخصصه الدول الأوروبية في موازناتها للعناية بالصحة النفسية لا يتجاوز 2 في المائة، وأن أكثر من نصف السكان لا يحصلون على خدمات صحية لمعالجة حالات القلق الشديد أو الاكتئاب.