فينيسيا.. مدينة الجسور التي يهدد وجودها العشاق

وكالة أنباء حضرموت

\لم تكن المسافة بين بيبيوني وفينيسيا سوى ثمانين كيلومتراً، لكنها بدت على امتدادها كرحلةٍ في ذاكرة الزمن، لا مجرد انتقال جغرافي بين نقطتين. الطريق الضيّق، الملتفّ كوجدانٍ قلق، يمرّ بين الغابات المتراصة والقرى المستلقية في سكون، كأنّها تحرس شيئاً خفيّاً. في تلك الرحلة التي امتدّت لساعةٍ ونصف الساعة، لم يكن الزحام وحده ما أثقل خطانا، بل ذلك الشعور الغريب بأننا نقترب من مدينة ليست كباقي المدن، مدينة كأنّها تُقاوم الغرق… والغربة… والزوال.

فينيسيا، مدينة الماء والحلم، حيث العشّاق يأتون بأيديهم المرتجفة وأعينهم الظمأى، وكأنّهم يشدّون الرحال إلى معبدٍ قديم يفيض بالرغبة والحنين. تكدّس السيّاح من كل الأعمار، وكلّ الجهات، في مرفئها كمن يبحث عن ذاكرة مفقودة. وجوه شاحبة، وأخرى مأخوذة بدهشة اللقاء الأوّل، جميعها تنصت لصوت الماء، وتترقب لحظة العبور في القارب، لا إلى مكان جديد، بل إلى زمن مختلف، وإلى نبضٍ يخرج عن إيقاع الحياة اليومية.

عروس تحتضر بصمت
المدينة لا تغرق فقط بل تنزف سكانها وتفرغ من أبنائها ليحلّ محلّهم زوّار لا يحملون سوى الكاميرات والاندهاش

في القارب السريع، وبين زحمة الأجساد المتراصة، لاح لي أن المدينة تستقبلنا كأمّ مثقلة بالتعب، تُخفي دمعتها تحت الملامح الهادئة. وفي كلّ قاربٍ يعبر، هناك قصص تُنقَل، وأحلام تتسلّل بين الموجات، وعشّاق يخافون أن تطغى الحقيقة على الخيال.

حين وطأت قدماي أرض البندقية، شعرت أنني أمشي على ذاكرة طافية، لا على أرضٍ صلبة. الأزقة الضيّقة، القنوات التي تخترق المدينة كما تخترق الذكريات أرواحنا، البيوت المائلة قليلاً، كأنّها في خجلٍ دائم من انهيارٍ وشيك. كلّ شيء هناك مبلّل، لا بالماء فقط، بل بالحزن النبيل، وبأسئلةٍ مؤجلة عن مصير الجمال حين يعجز عن حماية نفسه.

لماذا بُنيت مدينة فوق الماء؟ أيّ احتياجٍ نفسي أو رمزي دفع أهلها الأولين إلى هذا التحدّي؟ لربما أرادوا الانفصال عن الألم، عن الخطر، عن جشع البرّ، فاحتموا بالماء، بالحركة، بالسيولة التي لا تُمسك. لكنّهم لم يعلموا أن الماء لا يحمي، بل يلتهم ببطء، تماماً كما تلتهم الحياة معانيها.

المدينة اليوم لا تغرق فقط، بل تنزف سكانها. تفرغ من أبنائها الأصليين شيئاً فشيئاً، ليحلّ محلّهم زوّار لا يحملون سوى الكاميرات والاندهاش اللحظي. مدينة بلا أهل، كأنّها فقدت ذاكرتها، وتحولت إلى عرضٍ دائم، إلى ديكورٍ ساحر لكن بلا نبض.

فينيسيا ليست مجرد لوحة رومانسية، بل مرآة لما قد يصيب الإنسان حين يفرط في الحلم ويهمل الحذر. مدينة تعكس هشاشتنا نحن، وكيف يمكن للجمال إن لم يُصن ويُعاش بوعي، أن يتحوّل إلى فخّ نُفتن به، حتى ندمّر ما نحبّه بأيدينا.

وأنا أغادرها، كانت فينيسيا تودّعني بصمت الماء. لم تكن هناك كلمات، بل طنين داخلي يتردّد: “هل يمكن للمدينة أن تنقذ نفسها من نفسها؟”

مدينة البندقية، أو ما يُعرف بـ”فينيسيا”، تُعدّ واحدة من أروع المدن وأجملها في إيطاليا والعالم أجمع، كما سُمّيت بمدينة العشّاق لما تتمتع به من أجواء رومانسية، وشوارع تمثّلها القنوات المائية، ولذلك فهي تثير دهشة الزائر بكيفية البناء الذي خضعت له. وقد شُيّدت بواسطة سكان الجزر القريبة حولها، لغايات التصدّي للهجمات التي كانت تتعرض لها. وتُعرف البندقية بأنها المدينة الأكثر رومانسية، وهذا الوصف أخذته من العرب. مدينة البندقية، قبلة العشاق، وأفضل مكان لقضاء شهر العسل، فهي ساحرة، تنقل كل سائح عبر الجسور من مدينة إلى أخرى، أكثر روعةً وجمالاً.

هي الجزيرة المائية في شمال إيطاليا، ومساحتها 414.6 كم²، ويُقدّر عدد سكانها بـ271 ألف نسمة، أما عدد زوّارها سنوياً فأكثر بكثير. هي باختصار: البندقية، الفاتنة بسحرها الرومانسي… ورغم كل هذه الطبيعة والجمال، إلا أن المزيد من السكان المحليين أخذوا يغادرون المدينة الغارقة. كيف تحاول المدينة عبثاً أن تُنقذ نفسها من نفسها؟

البندقية، عاصمة مقاطعة فينيسيا بالكامل، وتقع في الركن الشمالي من إيطاليا، وتطل على البحر الأدرياتيكي، والذي يُعدّ أحد فروع البحر الأبيض المتوسط. وتتكوّن من مجموعة ضخمة من الجزر الصغيرة التي ترتبط ببعضها البعض بالجسور والقنوات، وأشهرها على الإطلاق “غراند كانال” (القناة الكبرى)، وهي قناة ضخمة تقسم المدينة إلى قسمين، وطولها حوالي 4 كم، وعرضها بين 30 و90 متراً، وتقع ضمن منتصف المدينة. وتُعد القوارب والسفن وسائل المواصلات الرسمية المعتمدة في البندقية، إذ تخلو المدينة تماماً من الطرق الممهدة كما هو الحال في غيرها من المدن.

كانت البندقية حلقة الوصل بين أوروبا وآسيا، وتتميز بموقعها الجغرافي الفريد، وتمتلك ميناءً بحرياً قائماً منذ مئات السنين، يُعدّ الميناء الرئيسي في شمالي البحر الأدرياتيكي. كما تتميز المدينة بطابع معماري فريد من نوعه، وتُعدّ من أكبر المراكز التاريخية في إيطاليا وأوروبا.

نشأت المدينة عام 800 قبل الميلاد، في بيئة نهرية تنتشر بها المستنقعات وغنية بالثروات. والمدينة عبارة عن عدة جزر، يصل عددها إلى 116 جزيرة، متصلة ببعضها البعض عن طريق الجسور. وقد ظلّت لأكثر من ألف عام عاصمة جمهورية فينيسيا، وكانت تُعرف بـ”مملكة البحر الأدرياتيكي”، نظراً لتراثها الحضاري والفني ومنطقة البحيرات التي تضمّها. وتُعدّ المدينة من أجمل مدن العالم التي ترعاها منظمة اليونسكو، الأمر الذي جعلها ثاني مدينة بعد روما من حيث ارتفاع التدفّق السياحي من أنحاء مختلفة من العالم.

كانت البندقية تتمتع بحكم ذاتي أثناء العصور الوسطى، وكانت تُسمّى “جمهورية البندقية”، وتُعد من أهم مرافئ أوروبا تجارياً أثناء الحملات الصليبية، وكانت تتمتع بقوّة بحرية هائلة.

ثرية بقصور النبلاء

فينيسيا ثرية بقصور النبلاء التي تطلّ على ساحات وشوارع وجداول وقنوات ومساكن قديمة تعود إلى أغنى عائلات فينيسيا خلال الفترة الذهبية للمدينة، ومن أشهرها قصر فورتوني، وقصر براسي الذي شيّده جورجي مساري. تمتلك فينيسيا أكبر عدد من الجسور، إذ يبلغ عددها حوالي 416 جسراً، منها جسور عائمة وخاصة، تربط بين الجزر الـ116 التي شيّدت عليها المدينة، وذلك عبر 176 قناة مائية. ومعظم هذه الجسور مبنية من الحجارة أو الخشب أو الحديد. أطول هذه الجسور هو “جسر الحرية” الذي يعبر البحيرة ويربط المدينة باليابسة، ما يتيح حركة مرور المركبات. ولم تكن السيارات وسيلة مواصلات في فينيسيا، بل الزوارق التي اشتهرت بها المدينة.

كانت البندقية في القرن الثامن عشر أحد أهم المراكز الثقافية والفنية في العالم، وقد كُلّف الرسامون الفينيقيون في ذلك الوقت بالعديد من الأعمال، بدءاً من الرسومات المقدسة للكنائس، وصولا إلى زخرفة القصور الفاخرة المنتشرة في المدينة.

لقد تطور تاريخ الفن في فينيسيا عبر العصور بطريقة فريدة، مختلفة عن باقي أوروبا، وقد تأثرت فنياً ولفترة طويلة بعلاقاتها مع العالم العربي.

وخلال الخمسين سنة الأخيرة، انخفض عدد سكان فينيسيا إلى 50 ألف نسمة. ويتوقع بعض الخبراء أنه مع حلول عام 2030 ستتحول فينيسيا إلى “مدينة أشباح”، يزورها السيّاح فقط نهاراً وتخلو ليلاً من السكان.

كل شيء هنا مبلل، لا بالماء فقط، بل بحزن نبيل وبأسئلة مؤجلة عن مصير الجمال حين يعجز عن حماية نفسه

ومن أشهر جسور البندقية “جسر التنهدات” الذي يقع في وسط المدينة بالقرب من ميدان سان ماركو، ويُعدّ من أشهر معالمها المعمارية، ويستمد اسمه من كونه جزءاً من مجمع سجن قديم، حيث كان يمرّ السجناء عبره من غرفة الاستجواب إلى الزنزانات بعد صدور الأحكام عليهم، ما جعله شاهداً على تنهداتهم الأخيرة. أما في الوقت الحاضر فقد بات يحمل دلالات أكثر سعادة، إذ يتدفق السياح سنوياً لمشاهدة تصميمه الجميل. كما شهدت البندقية افتتاح أوّل كازينو في العالم عام 1638.

في عام 421 تم بناء المدينة وسط بحيرة آسنة. وكما ذكرنا، فهي تتكون من 116 جزيرة، وأكثر من 7000 شارع، وقد قُسّمت إلى 6 مقاطعات: فينيسيا، فيرونا، بادوفا، فيتشنزا، بيلّونو، وروفيغو. وتربط الجسور بين هذه الجزر، وتُعدّ البندقية من أكبر المدن الإيطالية بعد روما.

تعدّ كنيسة سان مارك من أشهر معالم المدينة، وتضم عدداً كبيراً من لوحات الفسيفساء، وقد بُنيت كرمز للسلطة والثروة. دخول الكنيسة ليس بالأمر الصعب، إذ لا تُفرض رسوم للدخول إليها.

وظلّت أنظار السيّاح تتجه في كلّ اتجاه من المدينة الساحرة. جموع غفيرة ومهيبة، وهذا ما أفرحني بشكل شخصي، ويعبّر عن مدى اهتمامهم وحرصهم على زيارة المدينة العائمة، التاريخية، التي تُثير إعجاب الزوّار المتوزعين في أزقّتها وأقنيتها وشوارعها الضيقة، والتي لا يتجاوز عرض بعضها تسعين سنتيمتراً، بالكاد تمرّ فيها الأقدام. وبعضها أضيق أو أوسع قليلاً.

تلك الأزقة تستوقف المارّة أثناء تنقلهم بين الزوايا والقنوات المائية. ومن شدّة ضيق بعضها، كاد أحد السياح يسلك طريقاً يؤدي مباشرة إلى المياه، بعد أن ظنّ أنّ الزقاق يمتدّ لمسافة أطول، وفي اللحظة الأخيرة تدارك الموقف ووقف على قدميه وقد تملّكه الذعر، نتيجة اقترابه من السقوط في أحواض المدينة المائية والغرق فيها!

سحر يهدد البقاء

في تلك اللحظة التي تلامس فيها قدماك شوارع فينيسيا المبلّلة، يتسلّل إلى قلبك شعور غامض، مزيج من الدهشة والخوف. الجمال هنا ليس مجرد مشهد، بل حالة وجودية طاغية، تسحر العقل وتربك الحواس. لكن هذا السحر، بما يحمله من فتنة، يخفي خلفه مأساة مكتومة تتكشّف ببطء، كما تتسرب المياه المالحة إلى أساسات المدينة العتيقة.

فينيسيا، المدينة العائمة على هشيم الذكرى والماء، تستقبل ما يفوق عشرة ملايين زائر سنوياً، خاصة في ذروة الصيف الممتدة من يونيو حتى سبتمبر. ومع أن وفود السيّاح يمنحها حياة اقتصادية لا غنى عنها، فإن تدفّقهم الكثيف بات كالمدّ، يأخذ معه شيئاً من روح المدينة كل يوم.

لم تعد الحكايات المرعبة التي ينقلها الزوار عن انهيارات مفاجئة أو مبانٍ تتصدّع بفعل الرطوبة مجرد حكايات عابرة، بل أصبحت جزءاً من الذاكرة الحية للمدينة. فينيسيا تنزف من تحت أقدام الزائرين، وتئن تحت وطأة الفيضانات المتكررة التي اخترقت جدران البيوت، وهزّت استقرار الحجر القرميدي الأحمر الذي بُنيت منه منذ قرون.

الموت الذي يلوح لمدينة العشّاق ليس نتيجة عامل طبيعي فحسب، بل هو نتيجة عشق مفرط لا يعرف الاتزان

ورغم المحاولات الجادة التي تقودها الحكومة الإيطالية لحماية هذا الإرث الإنساني -ومنها مشروع ضخم بلغت كلفته مليار يورو- فإن تهديد الفناء لا يزال قائماً، يتربص في كل قطرة ماء تتسرب بصمت تحت القواعد المعمارية.

في مفارقة موجعة، يتناقص عدد السكان الأصليين عاماً بعد عام، فيما تزداد جحافل السيّاح الذين يناهز عددهم الستين ألفاً يومياً. المدينة التي كانت ملاذاً للروح، أصبحت ساحة يتزاحم فيها الغريب والمجهول، حتى ضاق بها المكان، وبهتت فيها ملامح أهلها الأصليين.

ومن تحت القبب الشرقية لكنيسة القديس ماركو، ومن ظلّ برجها الذي يلامس السماء، تلوح علامات الزمن وتضارباته. فبينما تحتفظ الكنائس والقصور بروعتها، فإن ما حولها يتغير: الزوار يجلسون بصدور عارية على ضفاف القنوات، يتناولون وجبات سريعة على أرصفة ترقد فوق ذاكرة الإمبراطورية، ويتسلقون المعالم الأثرية كما لو أنها مجرد دعائم للتسلية.

لم يكن الموت الذي يلوح لمدينة العشّاق نتيجة عامل طبيعي فحسب، بل هو نتيجة عشق مفرط… عشق لا يعرف الاتزان. لقد أصبحت فينيسيا ضحية لجمالها الآسر، ولسحرها الذي استحال عبئاً لا يُحتمل. فالحشود، التي كانت تحمل الحلم، أصبحت عبئاً على الحلم نفسه. كأن المدينة تُعاقب لأنها منحت البشر أكثر مما يحتملون من بهاء. فينيسيا لا تموت فجأة… بل تختنق ببطء.