قيادة الاتحاد التونسي للشغل ترفض التعاطي مع أصوات نقابية معارضة
لا يزال الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر منظمة نقابية في البلاد يعيش حالة من الصراع الداخلي رغم انفضاض الاعتصامات التي شهدها مقره في الفترة الماضية حيث ترفض القيادة المركزية التعاطي مع الأصوات النقابية المخالفة.
فمن جهة، يقود قادة سابقون ونقابيون معارضون تحركات تطعن بشرعية القيادة الحالية وتدعو إلى مؤتمر استثنائي يعيد تشكيل مركز القرار داخل المنظمة. ومن جهة أخرى، ترفض القيادة المنتخبة أي حديث عن "أزمة داخلية"، معتبرة ما يجري خلافات عادية تُعالج ضمن الأطر القانونية الداخلية.
ومع هذا التجاذب، يجد الاتحاد نفسه أمام لحظة دقيقة، لا تتعلق فقط بمصير هيكله التنظيمي بل أيضا بمدى قدرته على الحفاظ على استقلاليته التاريخية وسط اتهامات بالتقارب مع السلطة، وانقسامات غير مسبوقة داخل بعض قطاعاته الحيوية.
فهل تجاوز الاتحاد أزمته فعلا؟ أم أن ما جرى مجرد هدوء مؤقت يسبق انفجارا مؤجلا؟
وخلال الأسابيع الأخيرة انفض اعتصامان متزامنان داخل مقر الاتحاد بالعاصمة تونس، أحدهما نظّمته مجموعة "اتحادنا للمعارضة النقابية"، وهي مجموعة من قدماء النقابيين يقودها الطيب بوعائشة، وتطالب باستقالة المكتب التنفيذي الحالي بقيادة الأمين العام نورالدين الطبوبي. والاعتصام الثاني كان لأعضاء من المكتب التنفيذي نفسه، سبق أن دعوا إلى عقد مؤتمر استثنائي لتغيير القيادة الحالية.
وقال بو عائشة "لم نصل إلى أي تفاهم مع المكتب التنفيذي الحالي للاتحاد رغم وجود اعتصامين، اعتصامنا نحن واعتصام خمسة أعضاء من المكتب التنفيذي المختلفين مع زملائهم".
وأضاف أن "المكتب التنفيذي يرفض الحوار ويغلق الباب أمام أي مبادرة لمعالجة الأزمة"، مؤكدًا أن "الهيئة الإدارية، وهي أعلى سلطة في المنظمة، لم تُعقد منذ سبتمبر الماضي".
ورغم صدور بيان من خمسة أعضاء في المكتب التنفيذي ينتقدون الوضع الراهن، فإن الأغلبية في القيادة تعتبر ذلك "تجاوزًا لوحدة المنظمة" و"تهديدًا بالانشقاق".
وتتمثل الأزمة الداخلية في صراع بين معسكرين، معسكر الأمين العام (الطبوبي) الذي يريد أن يجدد قيادته بتعديل الفصل 20 من القانون الداخلي، وبين المعسكر المعارض الصاعد الذي يطمح بأخذ المشعل لقيادة اتحاد الشغل في المرحلة المقبلة.
ولم تقتصر الأزمة على المستوى المركزي بل امتدت إلى الهياكل القطاعية، لا سيما بقطاع التعليم الثانوي، حيث أصدر خمسة أعضاء من الهيئة الإدارية بيانا يرفضون فيه قرار الإضراب، ما فُهم على أنه تصدّع يخدم مصلحة السلطة، بحسب بوعائشة.
وفي هذا الصدد شدد على أن "نقابات التعليم الثانوي تعاني هي نفسها من الانشقاقات، حيث أصدر 5 من أعضاء الهيئة الإدارية للتعليم الثانوي بيانا مؤخرا يعلنون رفضهم قرار الإضراب الذي أعلنته الهيئة ذاتها، وهذا فيه خدمة على طبق من ذهب لوزارة التربية والسلطة لتقسيم كامل القطاع".
ورغم الاتهامات الموجهة من القيادة الحالية للمعارضة النقابية أنها "تخدم أجندة السلطة" في إضعاف الاتحاد، ينفي بوعائشة ذلك، معتبرا أن الحكم القضائي الذي أقر بشرعية "مؤتمر سوسة" يخدم القيادة الحالية لا المعارضة، مؤكدا أن "السلطة اليوم تقدم خدمات مباشرة لهذه القيادة".
وانعقد مؤتمر سوسة في يوليو 2021 لتغيير قوانين الترشح في الاتحاد العام للشغل، بحيث يُسمح فيها بالتمديد لأعضاء المكتب التنفيذي الحالي.
وأضاف "السلطة بصدد تقديم خدمة لهذه القيادة ولا يوجد أي موضوع سياسي أو اجتماعي هددت فيه القيادة الحالية السلطة لأنه لا يمكن أن تجد قيادة أكثر طوعا لها من هذه القيادة".
وفي المقابل، نفى سامي الطاهري، متحدث الاتحاد، وجود معارضة داخلية حقيقية، مؤكدًا أن "الاتحاد يحلّ خلافاته ضمن هياكله وبنظامه الداخلي".
واعتبر أن الخلافات في قطاع التعليم لا ترتبط بالصراع على القيادة، بل بـ"اختلافات بوجهات النظر حول توقيت الإضرابات"، مبينا أن "الاتحاد كيان وطني، لكنه ليس مفتوحًا للجميع، وله قواعده التنظيمية الخاصة".
وأشار إلى أن المنظمة تستعد لإحياء عيد العمال في 1 مايو عبر تجمع وطني سيتم خلاله التأكيد على المطالب الاجتماعية ومواصلة المفاوضات مع الحكومة حول الأجور وتنقيح مجلة الشغل (قانون ينظم علاقات العمل في تونس).
من جهته، يرى النقابي السابق عبد الرحمن الهذيلي، أن الطبوبي لا يزال يسيطر على مفاصل المنظمة، رغم الخلافات الظاهرة.
واعتبر أن المعارضة حاولت الاستفادة من علاقتها بالسلطة واللجوء إلى القضاء، لكن حساباتها فشلت بتحقيق اختراق مؤثر داخل الهياكل الفاعلة للاتحاد.
وأشار إلى أن "غالبية القواعد النقابية ترفض أي تغيير جذري في هذا التوقيت الحساس، لأن ذلك قد يُفسَّر على أنه خضوع لأجندات سياسية تهدد استقلالية المنظمة".
كما يرى أن الاتحاد يسعى حاليًا إلى "رفع المطالب الاجتماعية دون تجاوز سقف معيّن، بهدف تصدير أزمته الداخلية إلى المجال الاجتماعي والاحتفاظ بدوره التقليدي دون التصادم مع السلطة".
وخلال العشرية الماضية (من 2011 إلى 2021) كان الاتحاد يتمتع بموقع يتجاوز دوره النقابي، ليلعب دور الحكم بين الأطراف السياسية.
لكن منظومة "25 يوليو" وضعت حدودا جديدة لهذا الدور، وأعادت الاتحاد إلى مربع التوازن بين المطالبة الاجتماعية والحياد السياسي الحذر.
ويضيف الهذيلي أن "المعارضة النقابية تفتقد الوزن الحقيقي داخل المنظمة"، مذكرا بأن التنقيح المثير للجدل في مؤتمر سوسة (المتعلق بتمديد عضوية المكتب التنفيذي) لم يُعارضه سوى 17 مؤتمِرا من أصل أكثر من 600".
ومع تراجع الاحتجاجات داخل مقر الاتحاد، يبدو أن الأزمة التنظيمية التي عصفت به دخلت مرحلة هدوء حذر، دون أن تُحسم جذورها بشكل نهائي.
فالخلافات حول شرعية القيادة، وتعطّل بعض الهياكل، وتباين الرؤى حول العلاقة مع السلطة، لا تزال قائمة، وإن بدرجات متفاوتة.
في المقابل، تحاول المنظمة التركيز على ملفاتها الاجتماعية مع اقتراب عيد العمال، في وقت تستمر فيه المطالب الداخلية بإصلاحات هيكلية وفتح حوار شامل.
ويحذر نقابيون من الانقسام الذي وصل إليه الاتحاد العام للشغل، معتبرين أن ذلك من شأنه أن يؤثر على عمله كقوة اجتماعية ضاغطة لتحسين ظروف العاملين في ظل وصل ما إليه الاقتصاد الوطني من تدهور غير مسبوق.