صندوق دفاعي بلا ديون.. مبادرة أوروبية لفك عقدة «العسكرة المالية»

وكالة أنباء حضرموت

في لحظة فارقة تعكس تحولات عميقة في المنظور الأوروبي للأمن القومي، بدأ وزراء مالية الاتحاد الأوروبي مناقشات أولية بشأن إنشاء صندوق دفاعي مشترك يُعرف باسم «آلية الدفاع الأوروبية».

مقترح وُصف بأنه قد يشكل منعطفًا جوهريًا في مساعي التكتل لتعزيز استقلاليته الدفاعية وتقاسم أعباء التسلح وسط مخاوف من التصعيد مع روسيا وتراجع الاعتماد على أمريكا.

من القلق المالي إلى المعادلة الدفاعية
المقترح الذي قدّمه مركز الأبحاث الأوروبي «بروغل»، يقوم على فكرة قيام كيان أوروبي بشراء المعدات الدفاعية وتملكها، على أن تُتيح للدول الأعضاء استخدامها مقابل رسوم، بحيث لا تتحمل هذه الدول عبء تسجيل الإنفاق على ميزانياتها الوطنية، وهو ما يجنّبها مخالفة قواعد العجز والدين العام الصارمة المعتمدة داخل التكتل.

بهذا الشكل، يسعى الاتحاد الأوروبي لإيجاد صيغة مرنة تسمح له بزيادة الإنفاق العسكري دون تعميق أزماته المالية.

عدد من الوزراء، بينهم وزير المالية البرتغالي غواكيم ميراندا سارمينتو، رحبوا بالمبادرة باعتبارها «نقطة انطلاق جيدة».

فيما أعرب آخرون عن دعم مبدئي للفكرة، مع الإشارة إلى أن البنية الفنية لهذا الصندوق يمكن أن تُبنى على النموذج القائم لآلية الاستقرار الأوروبية، التي أُنشئت عقب أزمة الديون السيادية.

تحديات التمويل والتفويض والسيادة
ورغم الإشارات الإيجابية الأولية، فإن المشروع لا يزال يواجه عراقيل سياسية وفنية حقيقية.

من أبرزها مسألة التفويض القانوني لهذا الصندوق، ومدى صلاحياته في تحديد نوعية الأسلحة، وأولويات الشراء، وآليات التسعير والتوزيع بين الدول.

كما تُطرح تساؤلات حول آليات التمويل والرافعة المالية التي سيوفرها الصندوق، ودرجة الاندماج الدفاعي التي يمكن أن يفرضها على الدول، وهي إشكالية حساسة تتصل بمسألة السيادة الوطنية في الشؤون العسكرية.

وزير المالية البرتغالي أشار صراحة إلى أن «ثمة تحديات تتعلق بالتمويل والجانب العسكري معًا»، ما يعكس مدى تعقيد الربط بين البُعدين المالي والدفاعي في بنية الاتحاد الأوروبي الحالية.

نحو «سيادة دفاعية» مشتركة
يأتي هذا التحرك ضمن مسار أوسع تتبناه بروكسل منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث أدركت العواصم الأوروبية، من باريس إلى برلين، أن الاعتماد الاستراتيجي على واشنطن لم يعد مضمونًا كما في العقود السابقة.

كما غذّت التصريحات المتكررة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول خفض التزامات أمريكا تجاه الناتو هذه المخاوف، ما عزز القناعة بضرورة بناء سيادة دفاعية أوروبية مستقلة.

وكانت المفوضية الأوروبية قد دعت في وقت سابق إلى رفع الإنفاق العسكري الجماعي بمقدار 800 مليار يورو خلال أربع سنوات، سواء عبر تخفيف القواعد المالية التي تقيد الاستثمار الدفاعي، أو من خلال اعتماد برامج اقتراض مشترك.

لكن مثل هذه المبادرات، رغم طابعها الطموح، تُصطدم بعقبة رئيسية: الخوف من زيادة الديون الوطنية، خاصة لدى الدول المثقلة أصلًا بأعباء مالية، مثل إيطاليا والبرتغال واليونان.

هل تنجح أوروبا بكسر المعادلة؟
السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا المشروع هو: كيف يمكن تحقيق الجاهزية الدفاعية دون التضحية بالاستقرار المالي؟ المقترح الحالي يحاول تقديم إجابة متوازنة، عبر إخراج الإنفاق الدفاعي من دفاتر الحسابات الوطنية، وتحويله إلى مسؤولية جماعية.

وبهذا، لا يقتصر البعد العسكري على مسألة التسلح، بل يُصبح جزءًا من منظومة التضامن المالي والسياسي الأوروبي.

لكن النجاح في تنفيذ هذا الطرح مرهون بتوافق سياسي عابر للانقسامات بين الشمال المالي المحافظ والجنوب المثقل بالديون، كما يتطلب رؤية موحدة للأولويات العسكرية للتكتل.

ويمثل مشروع «آلية الدفاع الأوروبية» اختبارًا حقيقيًا لقدرة الاتحاد على التكيف مع التهديدات المعاصرة من دون الإخلال بتوازناته المالية.

وحال نجاحه، فقد يُشكل نواة لبنية دفاعية جماعية تكون أقل تبعية للناتو وأكثر تعبيرًا عن إرادة أوروبية مستقلة في زمن التحولات الجيوسياسية العميقة.