موسم أصيلة يقارب مستقبل الإسلام السياسي بين الإدماج والصد بالمنطقة العربية
شكلت ندوات منتدى أصيلة الدولي في دورته الخامسة والأربعين مناسبة لتدارس عدد من القضايا الفكرية والسياسية الراهنة، وسلّط عدد من الباحثين والمسؤولين السياسيين الضوء على أهمية تطوير إستراتيجيات جديدة لدمج الحركات الدينية في المشهد السياسي، مع استنتاجات مهمة تتناول العوامل الكامنة وراء صعود الأحزاب الإسلامية وتراجعها، ومستقبل هذه الحركات ومدى قدرتها على التعامل مع التغيرات داخل المجتمعات والتحولات الجيوسياسية الجارية في المنطقة.
وضمن الندوة الرئيسية الثالثة التي حملت عنوان “الحركات الدينية والحقل السياسي: أيّ مصير؟”، تطرق المحاضرون لتجربة المغرب الفريدة في دمج الحركات الإسلامية ضمن مجال تدبير الشأن العام وترك الفرصة للمواطن لاختبار شعارات هذا التيار من خلال الاختيار الديمقراطي، في وقت تعرف فيه بلدان أخرى توترا وأزمة ثقة بين حركات وأحزاب الإسلام السياسي والدولة.
وشدد الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة محمد بن عيسى على أن التيارات الدينية كانت ولا تزال جزءًا من المعادلة السياسية في الكثير من الدول، رغم التغيرات التي طرأت على المشهد منذ اندلاع الربيع العربي، مشيرا إلى أن هذه الحركات استغلت الفراغ السياسي والاجتماعي الناتج عن الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الشعبية، غير أن قدرتها على تقديم حلول سياسية متكاملة ظلت محل تساؤل. واعتبر أن التحولات الأخيرة أظهرت عجز الكثير من الأحزاب الدينية عن مجاراة متطلبات الحكم والتحديات الاقتصادية.
وأثناء ترؤسه للندوة الأولى، اعتبر سليمان الهتلان، الرئيس التنفيذي لشركة هتلان ميديا في الإمارات، أن الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية السياسية كانت وما زالت في بعض الدول جزءا من المجتمع السياسي، وشهدت فترات صعود وانحسارات، متسائلا هل تشكل هذه الأحزاب تهديدا لفكرة الدولة المدنية أو الوطنية؟ وهل ولاؤها للدول والمجتمعات محصور أم ولاء عابر للحدود؟ وإلى أين تتجه هذه الأحزاب التي أضحت تمثل دولة داخل الدولة؟
ومن وجهة نظره اعتبر سمير فهيم سليمان الحباشنة، الأمين العام لمجموعة السلام العربي، ووزير الثقافة الأردني السابق، أن الإسلام السياسي حاضر وموجود لكن مع الحرص على تقديم ممثليه لأطروحات فاعلة ونافعة اقتصاديا وتنمويا تقنع الناس، وهنا حينما تبتعد الدولة عن القضايا الكبرى للأمة وتتعامل معها بسلبية سيتسلل التشدد، على النظام الرسمي العربي أن يغلق منافذ التشدد لكي لا يتحول الإسلام السياسي إلى حالة متشددة تؤدي إلى الصدام والتفريق.
إدماج الحركات الإسلامية
ناقش المتدخلون على مدى يومين أسباب صعود وانحسار الحركات الإسلامية قبل ما يسمى الربيع العربي وبعده، وعلى هذا الأساس ومن منطلق فكري، أكد المفكر اللبناني، رضوان السيد، أن استمرارية الحركات الإسلامية على الساحة السياسية ستظل مرهونة بقدرتها على التجديد والانخراط في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.
في حين اعتبر نبيل بن عبدالله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، أن إدماج الحركات والأحزاب الإسلامية في الحياة السياسية بالدول العربية ممكن، وذلك رهين بإيجاد الصيغ الكفيلة بأن يجتمع الكل في حضن واحد، هو حضن الدولة، التي ينبغي أن تتميز بالديمقراطية والتعددية واحترام الحريات، متسائلا عن كيفية جعل التيار الإسلامي شريكا في مسار ديمقراطي مؤسساتي يحترم المقومات الأساسية للدولة التي هو جزء منها.
وفي مداخلته أكد أحمد المسلماني، الكاتب والمستشار السابق للرئيس المصري، أن “الإسلام السياسي ولد ليبقى، دون أن تكون المعادلة ولد ليحكم، وفي حديثه عن التجربة المصرية، أفاد المسلماني، بأن جماعة الإخوان المسلمين منذ 2013 عنوان فشل الإسلام السياسي في السلطة وفشل بعد السلطة، وأن الفراغ الفكري في العالم العربي يمكن أن يمهد لعودته من جديد، لأنه لم ينته، وكل أيديولوجيا قابلة للعودة والبقاء.
من جهته حمّل المسلماني، المستشار السابق للرئيس المصري، الرأسمالية المتطرفة مسؤولية دعم الإسلام السياسي، بطرق مختلفة، ولو استمرت على نهجها بعدم الاكتراث وتوريث الفقر للفقراء والغنى للأغنياء، فإنها تشكل خطرا كبيرا وستستمر في تغذية التطرف، مشددا على أن الفقر عنصر رئيسي في انتعاش جماعات الإسلام السياسي، وأوضح المسلماني مقاربته في كون الغرب يريد الحداثة لنفسه حصريا ولا يريدها لنا، وإنما يريد إشغالنا بالإسلام السياسي، معتبرا أن حرب غزة ليست موضوعا عسكريا فحسب، بل إن قمع جامعات مثل هارفارد وغيرها، تعبّر عن مقولة الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.
أغلب تجارب الإسلام السياسي في المنطقة كانت إخفاقات متتالية، باستثناء المغرب الذي اتبع نهجًا فريدًا في استيعاب الحركات الدينية
وفي وقت دعا فيه عبدالرحمن شلقم وزير خارجية ليبيا الأسبق، في مداخلته، إلى العمل على تكريس مسألة الدولة الوطنية القومية، موردا أن تيارات إسلامية كثيرة لا تؤمن بالحدود والدولة القطرية، فإن المفكر اللبناني رضوان السيد، أكد في مداخلة له أن أساس المشكلة العربية والإسلامية هذه الثقافة المنقسمة أصلا، وفيها دخلت القوى الاحتجاجية الإسلامية التي فرضت عليها الحداثة وتعتبرها تحديا لهويتها ومشكلتها، وهي جزء من ثقافتنا العامة ومفارقة عميقة لا نستطيع التخلص منها.
وذهب سمير فهيم سليمان الحباشنة إلى ما سماه بالقبول المتبادل بين الدولة والحركات الإسلامية، مستشهدا بالتجربتين المغربية والأردنية كنماذج محتملة، في حين سجّل المفكر رضوان السيد أن التيار الأصولي الإسلامي ينمو في سياق الأزمات، والثقافة العامة التي يحملها الجميع يعمل على تسييسها ليصبح تهديدا للنظام بغض النظر عن مدى نجاح هذا النظام.
من جهته، تحدث وزير الاتصال الحكومي الأردني مهند المبيضين عن صعود حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات الأخيرة بالأردن، وأن نجاحهم الانتخابي لا يعني بالضرورة نجاحهم في إدارة الدولة، مشددا أن الحكم يمثل اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة هذه الأحزاب على تقديم برامج سياسية تتناسب مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كان رضوان السيد قد ربط بين الأزمات الداخلية مع تأبيد مشكل فلسطين، فإن الإسلام السياسي سيظل مكمنا للأزمات ولا يمكن ضبطه ولا انضباطه، لأنه يقوم بعمليات انتحارية وليست عمليات عقلانية سياسية، فإن الأمين العام لمجموعة السلام العربي سمير الحباشنة قد أكد على ضرورة دمج الأحزاب الإسلامية في المشهد السياسي بالدول العربية، منوها بأن التحدي الرئيسي المطروح، في الوقت الحاضر، هو قبول الحركات السياسية الدينية ومدى قدرتها على دعم التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها العالم العربي.
التجربة المغربية
وبخصوص التجربة المغربية وكيف يمكن أن تقدم جوابا عن كيفية تدبير العلاقة بين الديني والسياسي، والدعوي والسياسي والحركات أو الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي بمقتضى الديمقراطية لها الحق في الوجود والمشاركة في الحياة العامة، وقد حاول كل متدخل الجواب عن التجربة المغربية من منطلق مختلف، وكقيادي خبر العمل السياسي تحت لواء الإسلام السياسي كما دخل رفقة حزبه غمار التدبير السياسي محليا ووطنيا، أكد مصطفى الخلفي وزير الاتصال السابق في حكومة العدالة والتنمية، أن تجربة الإسلاميين بالمغرب قامت بمراجعات بداية الثمانينات واشتغلت ضمن نسق سياسي قائم على إمارة المؤمنين، واستطاعت أن تحسم الإشكاليات التي سببت نوعا من التشويش منها التخلي عن شعار الإسلام هو الحل، باعتماد النقد الذاتي داخل الحركة الإسلامية، لأننا في نهاية المطاف بشر نجتهد فنصيب ونخطئ.
وبالنسبة إلينا يقول مصطفى الخلفي، فتجربة المراجعة أفضت إلى مقولات، والمقولة الأولى هي أن الدولة الإسلامية قائمة، لأن هناك إمارة المؤمنين ودستور الدولة ينص على الإسلام، وأن الاجتهاد جاء في إطار الإسلام، ولهذا أحب الحديث عن تجربة العدالة والتنمية وليس عن تجربة الإسلاميين، لهذا عندما فشلنا في الانتخابات الأخيرة 2021، لعوامل ذاتية وموضوعية، لم يؤد هذا إلى تشكل موقف من الإسلام كإسلام، لا الإسلام موجود والمساجد ممتلئة والقرآن منتشر والدائرة قائمون، والحركية مستمرة وظهرت في زلزال الحوز البعد الإسلامي الاجتماعي التضامني بشكل كبير.
وفي الإطار ذاته اعتبر سمير فهيم سليمان الحباشنة أن التجربة الأردنية والمغربية نموذجان قابلان للتطوير، بعدما تم استيعاب الإسلاميين في الأردن باعتبارهم جزءا من النسيج الاجتماعي، مركزا على نوع من التنظيم للعلاقة بين الإسلام السياسي ومكونات الدولة الأخرى ضمن قبول متبادل في إطار الدولة والاعتدال.
وفي تدخله اعتبر رضوان السيد أن الإسلام السياسي في الدول العربية تجربة تجاذبية سلبية صراعية، ما عدا المغرب، دون استخدام هذا البلد مقياسا، موضحا أن التجربة المغربية أكثر انفتاحا من تجارب كثيرة في الدول العربية، وأن أحسن فرصة للدول العربية هي الدخول في سياق التجربة المغربية حتى تنجح في تجاوز الأزمات بخلق فرصة للاستقرار والتنمية، مشددا أنه كلما ازدادت الدولة نجاحا قلَّ خطر الإسلام السياسي عامة.
وقال السيد إن أغلب تجارب الإسلام السياسي في المنطقة كانت إخفاقات متتالية، باستثناء المغرب الذي اتبع نهجًا فريدًا في استيعاب الحركات الدينية، بدوره أشاد عبدالرحمن شلقم، بالتجربة المغربية في إدماج التيار الإسلامي في الحياة السياسية، قائلا إن الإسلاميين في المغرب حكموا، لكن في المغرب الدولة غير الحكم، والدولة بيد الملك، وبيضة الوطن في وضعية مضبوطة.
وقال نبيل بن عبدالله موضحا “خلافا لما حصل في عدد من الدول العربية الأخرى، عرفنا في المغرب مرورا سلسا إلى الانتخابات ثم تشكيل الحكومة ثم انتخابات أدت في نهاية المطاف إلى خروج هذا التيار واستمرار الحياة بغض النظر عن بعض الجزئيات التي نقف عندها”، معتبرا أن “الخلاصة الأساس بالنسبة إلينا هي أن إدماج التيار الإسلامي أمر ممكن”.
وإذا كان مصطفى الخلفي قد ركز على فكرة التمايز بين الدعوي والسياسي، على اعتبار أن هنالك ما نسميه في بلادنا بالحقل الديني، وهناك سياسة يشرف عليها العاهل المغربي الملك محمد السادس فهو يؤطر الحقل الديني والمجالس العلمية، وأن الحاجة الفطرية عند الناس للتدين والتعبد وممارسة شعائره تؤطرها الدولة، فقد شدد زميله في الحكومة السابقة، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، نبيل بن عبدالله، على أننا تعاملنا في إطار الحكومة مع تيار إسلامي، ويمكن أن أقول لكم إن هناك فرقا كبيرا بين هذا التيار قبل أن يدخل التجربة الحكومية وبعدما عاش هذه التجربة وعرف محن التدبير المباشر.
ومن منطلق التحالف الذي جمعه مع العدالة والتنمية، أكد نبيل بن عبدالله، أن الحزب أصبح اليوم تيارا كباقي التيارات الأخرى، يقبل بالعمل الديمقراطي وبالتعددية وبالاختلاف، معتبرا أن التجربة المغربية على هذا المستوى كانت تجربة متفردة يتعين الوقوف عند أهم إيجابياتها، وربما توسيعها لتشمل فضاءات أخرى.
والمهم عندنا يقول مصطفى الخلفي، أن المراجعات الأساسية باعتبارها تصحيحا لنظرتنا وتجاوزا لمنطق المفاصلة الشعورية، وبأن هذا المجتمع جاهلي ومجتمع كافر، وفعلا حدثت مفاصلة بين خيار معتدل مؤمن بالمشاركة السياسية وبين خيار متطرف رافض لها، لكن مع الزمن بدأ هذا الخيار الثاني ينحصر، ولهذا فرغم التفجيرات الإرهابية في 16 مايو 2003، والأحداث التي ظهرت بعدها، بقينا إزاء حالات فردية ومجموعات معزولة هامشية متأثرة بما يقع في الشرق أكثر منها متأثرة بما يقع في بلادنا.
ومن وجهة نظره ذكر المفكر والأكاديمي المغربي سعيد بن سعيد العلوي بأن جميع مرجعيات التيارات الإسلامية لا تعترف تقليديا بالحدود أو المواطنين أو السيادة ما يعني أن التحدي يكمن في تطوير هذه المواقف النظرية نحو براغماتية سياسية متوافقة مع الدولة القومية الحديثة، لافتا إلى أن الدستور المغربي، رغم اعترافه بالهوية الإسلامية للبلاد، يمنع إنشاء أحزاب على أسس دينية.