هل بات الرحيل القسري القدر المحتوم للأقباط في السودان

وكالة أنباء حضرموت

دفعت الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل 2023 الأقباط مجددا في هذا البلد إلى الرحيل، في ظل انتهاكات تعرضوا لها طالت، بحسب نشطاء، حتى الأموات منهم ودور العبادة. ويعتبر الأقباط أكبر طائفة مسيحية في السودان، وينتمي معظم الأقباط إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وبحسب مؤرخين، فإن تاريخ وجودهم في السودان يعود إلى القرن الرابع الميلادي.

وسلط تحقيق لشبكة “عاين” السودانية الضوء على هذه الأقلية والانتهاكات التي تعرض لها أبناؤها خلال الحرب المستمرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي دفعت إلى إجلائهم، ليكون الرحيل القسري الرابع لهم في العصر الحديث.

وقالت المحامية والناشطة في قضايا حرية الدين والمعتقد بابل إسحق إن “الاحتجاز الذي تعرض له عدد كبير من الأقباط في المنازل والكنائس بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل من العام الماضي، أثر سلبا على وضعهم النفسي قبل أن تتدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وتجليهم".

وأشارت بابل إلى أن الأقباط مجموعة مؤثرة في المجتمع السوداني، وأسهمت في تعزيز التنوع لتميزهم بالسلام الاجتماعي وقبول الآخر، وما تعرضوا له مماثل لما عانته المكونات السودانية الأخرى، والتي واجهت التهجير القسري ونهب الممتلكات الخاصة والعامة والاعتداءات الجسدية واللفظية، وتدمير دور العبادة وغيرها من الانتهاكات.

وعلى غرار مصر يعد أقباط السودان كتلة اقتصادية فاعلة في البلاد، ولهم بصماتهم في الحياة الثقافية والاجتماعية في كافة المناطق التي سكنوها، لاسيما مدن العاصمة السودانية الثلاث، الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، وود مدني عاصمة ولاية الجزيرة أواسط السودان، والأبيض في شمال كردفان، ونيالا في جنوب دارفور، بالإضافة إلى ولاية سنار، فقد أسسوا أول مدرسة أهلية للبنات في عام 1902.

وتمثل المكتبة القبطية التي تأسست عام 1908 في العاصمة الخرطوم، والتي تضم كتباً تاريخية ومخطوطات، وكانت مركزاً ثقافياً مهما، شاهدا على دور هذه الأقلية في النهوض بالحياة الثقافية. كما توجد كنيسة العهد الجديد في مدينة نيالا غربي البلاد، والتي كانت بمثابة مقر للاستنارة، لكن جميع هذه المعالم باتت تحت النيران، بينما هجرها أهلها في رحلات هروب جماعية.

وهذه المرة الرابعة التي يضطر فيها الأقباط السودانيون إلى مغادرة البلاد قسرا، فبحسب الروايات التاريخية فر العديد من الأقباط من السودان إبان حكم الدولة المهدية والتضييق الذي كانت تمارسه عليهم سلطة الخليفة عبدالله التعايشي وتخييرهم بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية، وعادوا مع بداية الحكم الإنجليزي – المصري للبلاد.

واضطر الأقباط إلى تنظيم هجرات من السودان خلال حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري وسن ما يعرف بقوانين سبتمبر سنة 1983، حيث مارست السلطات آنذاك تضييقا واسعا عليهم، وعلى أنشطتهم الاقتصادية والتجارية. وبلغت الانتهاكات ذروتها بعد صعود نظام الجبهة الإسلامية إلى الحكم بانقلاب عسكري في عام 1989، والذي كان وبالا على هذا المكون، إذ صُودِرَت ممتلكاتهم، ودفعهم ذلك إلى المغادرة لمختلف دول العالم.

وترى الحقوقية بابل إسحق، في حديثها مع “عاين”، أن عودة الأقباط إلى السودان مجددا مرهونة بتوقف الحرب ووحدة البلاد، مشددة على أن النظام السياسي الذي سيحكم السودان عقب القتال الحالي ينبغي أن يراعي قضايا الأقليات الدينية وإنصافها، وأن تقف الدولة على مسافة واحدة من كل الأديان.

وتوقعت إسحق أن تشهد فترة ما بعد الحرب تغييرات كبيرة في أوضاع عامة المسيحيين في السودان. ولا توجد إحصاءات رسمية في السودان حول أعداد المسيحيين، وتقدر مؤسسات كنسية عددهم بعد انفصال جنوب السودان بنحو 1.4 مليون نسمة.

وينتشر المسيحيون في جميع أنحاء البلاد، وقدّرت وزارة الخارجية الأميركية عام 2022 أنّ 5.4 في المئة من عدد السكان البالغ 48 مليوناً هم من المسيحيين. وتضم مدينة عطبرة، التابعة لولاية نهر النيل، أكبر تجمع للمسيحيين الأقباط، وقبيل الحرب كان هناك تجمع كبير آخر في أم درمان المدينة التوأم للخرطوم.

وكانت ثورة ديسمبر التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين قد أنهت عقودا من الظلم المرتكب في حق السودانيين الأقباط، وأعادت لهم ممتلكاتهم التي صُودِرَت مع السماح لهم بتأسيس دور عبادة جديدة، لكن السلطة الانتقالية لم تستمر طويلا، فسرعان ما اُنْقُضّ عليها من قبل العسكريين، واندلعت الحرب ليعود الأقباط إلى عهد الانتهاكات والفرار القسري.

وقال الخبير القانوني نبيل أديب في مقابلة مع "عاين" إن "أغلب منتسبي طائفة الأقباط اضطروا إلى اللجوء خارج البلاد، وهو واقع مماثل لما عاشه عامة السودانيين الذين فروا من ديارهم هربا من الحرب".

ولفت أديب إلى أن الأقباط طائفة دينية نشأت في مصر، وهاجرت إلى السودان بعد الغزو الإنجليزي والتركي – المصري للبلاد، وكان ذلك خلال عام 1820، واستمرت الهجرات طوال العهود اللاحقة، لكنها انقطعت خلال فترة حكم الدولة المهدية لتعود مع الحكم الثنائي، وهي مدة زمنية طويلة جعلت الأقباط يأخذون طباع المكونات الاجتماعية الأخرى في المناطق التي عاشوا فيها بالبلاد، مع احتفاظهم بالعادات المتصلة بمعتقداتهم الدينية.

◙ على غرار مصر يعد الأقباط في السودان كتلة اقتصادية فاعلة في البلاد، ولهم بصماتهم في الحياة الثقافية والاجتماعية

وشدد على أن "الأقباط أصبحوا يشكلون طائفة سودانية معروفة في المدن الكبيرة في شمال وغرب السودان، وفي العاصمة المثلثة على وجه الخصوص، وساهموا في الحركة الوطنية، وفي الحركة السياسية السودانية".

واشتهر الأقباط المسيحيون الأرثوذكس بالعمل في الصناعة والتجارة، وتولوا وظائف في الخدمة المدنية والسياسية، إذ تولى وديع حبشي منصب وزير الزراعة، وموريس سدرة وزير الصحة، في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، وكانت تريزا شاكر نائبة في البرلمان في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، كما تقلدت رجاء نيكولا عبدالمسيح منصب عضو في مجلس السيادة ضمن السلطة الانتقالية التي تشكلت بعد ثورة ديسمبر.

ويرى القانوني نبيل أديب، الذي ينتمي إلى الطائفة القبطية، أن عودة السودانيين بمختلف مكوناتهم، بما في ذلك الأقباط، إلى ديارهم مرهونة بتوقف الحرب التي مازالت تشهد غموضا وبمدى قدرتهم ونجاحهم أو فشلهم في خلق بدائل للعيش والاستقرار في المناطق التي لجأوا إليها، لافتاً إلى أنه مع تواصل القتال حاول الفارون إيجاد أعمال تمكنهم من العيش في البلدان التي وصلوا إليها، خاصة مصر.

وكشف تقرير الحريات الدينية الأميركي لعام 2023 عن تعرض دور العبادة للقصف الجوي والمدفعي في السودان واستهداف متعمد من قبل طرفي الحرب للمباني الكنسية. وقال الأكاديمي السوداني النزير إدريس إن "الأقباط شريحة مميزة في المجتمع السوداني. ورغم قلة عددهم إلا أن دورهم في مختلف مناحي الحياة كان حاضراً ومؤثراً، وذلك من خلال معايشتهم عن قرب في مدينة نيالا غربي البلاد لسنتين، فالتعامل التجاري معهم مريح، إذ لا يعرفون الغش، ولا يزيدون الأسعار دون مبرر".

وأضاف إدريس أن "التجار الأقباط لعبوا دوراً كبيراً في توثيق وتوسيع العلاقات التجارية بين مصر والسودان؛ حيث كانت مصر طريق التجارة الخارجية للسودان إلى العالم". واعتبر أن الانتهاكات والفظائع التي تعرض لها الأقباط خلال الحرب الحالية ربما تجعلهم يمتنعون عن العودة إلى ديارهم مجدداً؛ ما يشكل خسارة كبيرة للسودان.