ثقافة وفنون
الألوان حياة موازية (لوحة للفنان عياد النمر)
فنانو الذاكرة.. حكاية شاب لا ينسى شيئا مطلقا ويحول الكلمات والأصوات إلى ألوان
تشكل ظاهرة السينيستيزيا أو “الحس المرافق” واحدة من الظواهر الإدراكية التي أصيب بها الكثير من المشاهير مثل فلاديمير نابوكوف وفان غوغ وفاريل ويليامز. وهي الظاهرة نفسها التي يعاني منها بطل رواية “فنانو الذاكرة” للروائي والمترجم الكندي جيفري موور، ويدعى نويل، منذ أن كان طفلًا.
يقوم نويل بربط كل شيء بالألوان. فعندما يدرك شيئًا ما بحاسة محددة، تدور عجلة من الألوان في ذهنه. فالكلمات التي يسمعها يدرك كل منها بلون محدد، حتى صارت ذاكرته تتميز بقدرة خارقة على تذكر أحداث قديمة بدقة متناهية، على عكس والدته التي تعاني من مرض “الزهايمر”.
وتتصاعد من هنا أحداث الرواية التي ترجمتها نهى مصطفى وصدرت عن دار العربي، حيث يجتمع نويل وأصدقاؤه في بيته ليكشفوا لبعضهم بعضًا ما يمرون به في داخلهم، سعيًا لإيجاد علاج بإشراف طبيبهم.
حالة نادرة
أضاءت مصطفى في مقدمتها جانبا مهما من الظاهرة عبر شخصية بطل الرواية قائلة “في حالة نويل، وهو الحالة الأكثر تطرفا للمرض، فإن ما يسمعه من الأصوات والكلمات تطلق سلسلة من الألوان الزاهية ذات الملمس في عقله، تعيقه عن أن يستمع فعليا للكلمات التي تقال أمامه. فهو لا يسمع الكلمات كما نسمعها، بل يرى عجلة من الألوان المختلفة والمتنوعة لكل صوت. وتطلق الكلمات ذاكرته ليتذكر نصوصا أدبية وشعرية ذات صلة أو مشاهد سينمائية أو مقاطع غنائية”.
وتضيف “كلما سمع نويل أي صوت أو قرأ أي كلمة فإن أشكالا متعددة الألوان تتكون داخل رأسه لتصبح بمثابة علامات أو خرائط تساعده على استرجاع أدق التفاصيل، عاطفة، مزاج معين، نبرة صوت، الكلمات التي قيلت خلال أحداث بعينها، ربما منذ ثلاثة عقود مضت. ويتمتع نويل بذاكرة قوية أو غير عادية تجعله لا ينسى أي شيء سمعه أو قرأه أو رآه منذ أن كان طفلا صغيرا جدا. كان نويل يحفظ أي شيء تقريبًا يلقى به إليه. يمكنه أن يتذكر قائمة تضم خمسين كلمة عشوائية بأي لغة تقريبًا بعد بضع ثوانٍ فقط من المحاولات، يمكنه حفظ مجموعة من أوراق اللعب المفندة في أقل من ستين ثانية، و18 مجموعة في الساعة، ويمكن أن يردد عددا مكونا من 100 رقم بعد سماعه مرة واحدة بسرعة و500 رقم في ساعة واحدة”.
وترى مصطفى “بقدر ما قد يرى الكثيرون ما في هذه الأعراض من مميزات، إلا أنها أيضا كانت تعقد حياته ولا تجعله قادرا على العيش بطريقة طبيعية، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار عدم قدرته على استكمال أي دراسة رسمية أو إقامة أي علاقات إنسانية، مع عدم قدرته على نسيان أسوأ اللحظات التي يمر بها الإنسان في حياته، بل يعيشها يوميا بنفس الوجع والفجيعة، فمع نويل الحزن لا يمضي بالوقت، بل الحقيقة إنه مهما مر من وقت فإنه لن ينسي أبدا حادثة وفاة والده، على سبيل المثال”.
وبالرغم من ذلك، فإن نويل لم يرغب في أن يتخلص من السينيستيزيا، كما قال لـ”سميرة” “لدي مشكلة في تصور العالم بحروف وأصوات محايدة، واضحة، بيضاء، أو أيا كان. في بعض الأحيان، أعتقد أن أولئك الذين ليس لديهم سينيستيزيا يفتقدون رؤية العالم بشكل ما. تقريبا مثل من يعانون من عمى الألوان. أعتقد أن جميع من يعانون من السينيستيزيا يشعرون بنفس الشيء. خذي في اعتبارك أننا لسنا جميعًا متشابهين، الأغلبية لديها أعراض خفيفة، لا تتداخل مع حياتهم اليومية، في حين أن القليلين فقط منهم يعانون من مشاكل في الاندماج في العمل والمجتمع بسبب ذلك، مثل بعض الفنانين. ومثلي أنا”.
وتقول مصطفى “على مر العصور، نجد أن الكثير من المبدعين كانوا مصابين بالسينيستيزيا، مثل ليست وفلاديمير نابوكوف وريميسكي – كورساكوف وسكريابين ورامبو وبودلير. يمكننا إضافة رسامين إلى القائمة، كاندينسكي وهوكني، وكذلك الملحن الفرنسي أوليفييه ميسيان والمخرج السينمائي الروسي سيرجي إيزنشتاين والشاعر الياباني باشو. بطبيعة الحال، لا يوجد اثنان من مرضى السينيستيزيا يرون نفس ألوان الصوت، فبالنسبة إلى ريميسكي – كورساكوف يبدو مفتاح ف ماجور أخضر، أما سكريابين فيبدو أنه بنفسجي. أما السينيستيزيا لدى رامبو فجعلته يخترع ألوان الحروف المتحركة (a أسود/ e أبيض/ i أحمر/ o أزرق/ u أخضر)”.
أما بالنسبة إلى بودلير، فتلفت إلى أنه يلمح إلى ما يراه في قصيدة “تداعي المعاني” يقول: مثل الأصداء الطويلة، والتي من مسافة/ تندمج في وحدة عميقة وغامضة/ واسعة مثل الليل، واسعة مثل الضوء/ الروائح والألوان والأصوات تتناغم”. ويعلن في مجموعته الشعرية الشهيرة “أزهار الشر”: “لدي ذكريات أكثر مما لو كان عمري ألف عام”.
ولأن نويل هو مريض العصر الحديث، فقد استطاع، رغم كل الضغوط والتحديات، أن يجد دواء لعلاج والدته من مرض الزهايمر الذي كاد أن يفتك بها. واستطاعت أن تستعيد حياتها مرة أخرى بفضل ذاكرة ابنها غير العادية.
ملحمة علمية
افتتح الروائي جيفري موور روايته المستوحاة من أحداث حقيقية بشهادة يقدمها عالم نفسي وعصبي يدعى إيميل فورتا الذي تعد الرواية تسجيلا لتجربته العلمية، حيث كان الطبيب المعالج لنويل وتابع علاقاته مع والدته ووالده وأصدقائه الخمسة، ومن ثم درسهم جميعا وللأمانة العلمية سجل ما جرى وأعطاه لكاتب ليسرد قصصهم لتشكل رؤية متكاملة.
وقال فورتا موضحا “ما سأكتبه هنا هو قصة حقيقية. على مدى أكثر من عشرين عامًا، قمت بدراسة هذا الشاب الرائع، الذي تم تشخيص حالته بـ’متلازمة فرط الاستذكار‘. مع نهاية علاقتنا، في شتاء/ ربيع عام 2002، كان ‘ن ب’ ووالدته ‘س ب’ على اتصال بثلاثة مشاركين آخرين في تجارب الذاكرة التي كنت أجريها أو أشرف عليها. أثبت هذا الاتصال الذي تم بالصدفة، أنه كان المعادل الموضوعي لحدوث معجزة حقيقية في تطور حالات هؤلاء الخمسة”.
وأضاف "قام الكاتب، الذي أعاد سرد قصتهم، بعمل البناء الدرامي مدمجًا مع المقابلات والملاحظات المختبرية والمداخلات اليومية التي أجريتها معهم. لم يتم تغيير أي شيء في هذه السجلات مطلقًا، حتى عندما لم أكن أستحسنها شخصيًّا؛ فمن أجل مصلحة العلم، وكتسجيل للتاريخ، فقد اعتبرت أنه من واجبي عدم إخفاء أي شيء أو حظر أي شيء".
وقال "لأن ما بعد الحداثة ليس من اختصاصي، ولأن اللغة الإنجليزية ليست مضماري (حيث إن اللغة الفرنسية والألمانية هما لغتاي الأم) أجريت مراجعات بسيطة فقط على النص، وحذفت مقاطع ضعيفة أو غير ضرورية عندما تأكدت من أن الحذف سيحسن ويعزز النص".
وتابع "الآن السؤال الواضح. لماذا ننشر كتابًا آخر عن هذه الملحمة العلمية، والثالث على الأقل خلال العام الماضي؟ يعلم الجميع أن اكتشافًا رائدًا في مجال الذاكرة قد تم تحت رعايتي المستنيرة. ويعلم الجميع أنني حصلت على جائزة اسكندنافية مرموقة عن هذا الاكتشاف. ومع ذلك، بعد ساعات من عودتي من أوروبا، بدأ الجدل يحوم مثل أبخرة الغازات السامة. اتهمتني ثلاث صحف أميركية، بأسلوب خبيث، بأنني نسبت الفضل إلى نفسي في اكتشاف لم أكن قد صنعته، وبممارسة سلوك مهني شائن. والآن بعد أن أصبحت شبه متقاعد، وأيام مجدي ورائي، لا أريد أن أشوه سمعة ‘ن ب’ (فهو بطريقته الخاصة كان شابًّا عبقريًّا) ولا تلميع سمعتي أيضًا. وقبل أن أغرق، في طي النسيان، بفقدان الذاكرة النهائي، أود أن أضع الأمور في نصابها الصحيح بالنسبة إلى زوجتي وابنتي والتاريخ الطبي".