اخبار الإقليم والعالم
كيف ينظر الخليجيون إلى إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد
فوجئ الغرب عموما، وأوروبا خصوصا، بظهور هذا النظام العالمي الجديد، مع إعادة انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ولم يُدرك الغرب تماما بعدُ صدمة هذا التغيير الجذري، حيث يرفض العديد من الطيبين قبول الظروف الجديدة وزعزعة يقينياتهم المألوفة.
ومع ذلك، تعمل بعض دول الخليج منذ فترة طويلة مع هذا الواقع الجديد. وقد ينبع ارتباك الغرب الحالي من شعور متأصل بالتفوق الفكري، وهو ما عزّز الاعتقاد بأن أيديولوجياته باقية.
وتجلّى الفرق بين التفكير التقليدي والعقلية الحديثة السائدة في الخليج بوضوح في عرضين قُدّما الشهر قبل الماضي، أحدهما من ضابط أميركي كبير متقاعد على الجانب الغربي من القناة، والآخر من الدكتور ثاني بن أحمد الزيودي، وزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية، الذي خاطب مسؤولي المفوضية الأوروبية في بروكسل.
وقدّم المتحدث الأميركي مجهول الهوية لمستمعيه تصورين مستقبليين محتملين.
يشمل السيناريو الأول عودة بطيئة إلى نظام عالمي قائم على القواعد، حيث تتعارض المرحلة التجريبية الأولية لرئاسة ترامب مع الواقع، ثم تستقر في نهاية المطاف إلى وضع أقل تطرفا. وبحلول سنة 2028، تنتقل الأمور إلى حالة شبه طبيعية مع انتخاب رئيس جديد يجذب الناخبين الذين خاب أملهم من الفوضى. وتندرج أحداث مثل كارثة مجموعة دردشة سيغنال، وانهيار الاقتصاد العالمي، وتعهد “السلام في أوكرانيا خلال 24 ساعة” ضمن هذه الفترة التجريبية المبكرة.
وتسود الترامبية في السيناريو الثاني، ويُلغى النظام القائم على القواعد تماما، وتُنذر انتخابات 2028 بالمزيد من الاستمرارية. وتنحل التحالفات طويلة الأمد، وتُلغى عقود طائرات إف – 35، وتتعزز روسيا، وتُستبعد أوروبا، وتُتجاوز القوة الناعمة. وتواجه الولايات المتحدة الصين وحدها، بينما تُعيد دول أخرى تسليح نفسها بناءً على مصالحها التجارية، وتسعى إلى امتلاك قدرات نووية، وتُبرم اتفاقيات مع الصين.
ويشير التاريخ إلى أن أيّ نظام عالمي لا يدوم إلى أجل غير مسمّى، ولكن يشير أيضا إلى أن التحولات تميل إلى الاعتدال بمرور الوقت. وليست العديد من سمات الترامبية جديدة، ويُذكر منها انعزالية أميركا قبل ديسمبر 1941، أو إصرار بريطانيا بعد الحرب على سداد ثمن إمداداتها من الأسلحة بموجب قانون الإعارة والتأجير. وليست أوكرانيا، التي تكافح الآن من أجل البقاء، أول من يُطلب منه تحمل مثل هذا العبء.
ويرى الكاتب جوناثان كامبل – جيمس في تقرير لموقع عرب دايجست أنه قد يكون منظور الخليج، المثير لاستياء بعض المثقفين الغربيين، هو الذي يقدم أوضح رؤية لطول أمد عهد ترامب ولعمقه.
ووصف الوزير الإماراتي كيف كان الموقف المبادل في العلاقات الدولية والتجارة محوريا في إستراتيجية الإمارات الأمنية لسنوات، وقد نُفذ بنجاح واضح في الداخل، بما أدى إلى الاستقرار والنمو الاقتصادي.
وتتضمن هذه الإستراتيجية تقليل التبعيات الإستراتيجية، وإيجاد ترتيبات ثنائية مفيدة للطرفين تركز على مشاريع وصفقات محددة، وتجنب الالتزامات الدولية التي قد تُضعف تماسك الدولة الإماراتية أو هويتها.
◄ النموذج الإماراتي مصمم لاغتنام الفرص، فكل اتفاقية ثنائية، سواء كانت اقتصادية أم أمنية، تُحكم فقط على أساس فائدتها
وتتضمن هذه الإستراتيجية مقاومة أكثر من 27 عاما من المفاوضات وضغوط الاتحاد الأوروبي لاعتماد المعايير الأوروبية كشرط لاتفاقية التجارة الحرة.
وأبرمت الإمارات اتفاقية تجارة حرة مع الهند، خالية من الشروط الأيديولوجية، في غضون أشهر، وحققت زيادة في التجارة بنسبة 20 في المئة في عامها الأول. كما سعت إلى تقليل الاعتماد على النفط والغاز، ومن ثم تطوير الطاقة النووية التي تُوفر الآن 20 في المئة من الطاقة الإماراتية الأساسية، وتنمية اقتصاد غير نفطي يُشكل الآن 70 في المئة من الناتج الوطني. بالإضافة إلى ذلك، بنت الإمارات قدرات عسكرية مستقلة قوية مع تعرض محدود لقيود المزوّدين الأجانب أو لوائح تجارة الأسلحة الدولية.
وصُمّم هذا النموذج محليا، إلا أنه مدفوع بالنية الأميركية الراسخة لتقليص تدخلها في الخليج، وهو اتجاه ثابت عبر الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء. وقد نجح هذا النموذج بشكل ممتاز، على الأقل بالنسبة إلى الإمارات. ولا يوجد أيّ حافز للعودة إلى إطار “الغرب ضد بقية العالم” المبني على ضمانات أمنية غير مؤكدة. كما لا توجد أيّ رغبة حقيقية في الانخراط بعمق مع كتلة بريكس أو مع أنظمة الأمن الصينية أو الروسية.
ويتميّز النموذج الإماراتي بأنه مصمم لاغتنام الفرص. فكل اتفاقية ثنائية، سواء كانت اقتصادية أم أمنية، تُحكم فقط على أساس فائدتها الملموسة. فلماذا الاعتماد على شريك غير متوقع أو تبني قيم أجنبية دون تحقيق مكاسب واضحة؟ ولماذا البقاء عرضة للتحولات غير المنتظمة في مزاج الناخبين الأميركيين المنقسمين في ظل توازن القوى؟
ستواصل الإمارات هذا المسار بغض النظر عن القرارات التي تتخذها الولايات المتحدة أو غيرها. ولأن هذا النموذج فعال، فإنه يكتسب زخما في أماكن أخرى.
ونجد جميع الدول الأعضاء الأخرى في مجلس التعاون الخليجي متفقة بالفعل على هذا النهج. وكما أكد وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي في خطابه المهم الذي ألقاه في فبراير 2024 في أكسفورد، فإنهم يتعاونون بنشاط مع مجموعة واسعة من الشركاء. وتمتد جاذبية هذا النموذج إلى ما هو أبعد من منطقة الخليج.
ومن الممكن، بطبيعة الحال، أن يحتاج مجلس التعاون الخليجي يوما ما إلى حلفاء، ويجد، نظرا إلى طبيعته التبادلية، أن لا أحد يمد له يد العون من باب المبدأ أو التضامن. لكنه يبدو مستعدا لهذا أيضا. فعلى سبيل المثال، وفي الوقت الذي تواجه فيه إيران مخاطر هجمات متزايدة ويتسم موقفها بالتوتر، كثّفت الإمارات نفوذها بطرق شملت استضافة زيارات لقطع بحرية إيرانية.
ويرى مراقبون أن الإمارات، وبقية دول الخليج، تحرص على أن تكون بمنأى عن التصعيد الغربي مع إيران، وألا تضع نفسها في أيّ صف يستهدف دولة جارة تتداخل معها العلاقات التاريخية والجغرافية والمصالح المباشرة.
وقد اتّبعت زيارة وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان التصالحية إلى طهران قبل أسبوعين المنطق نفسه الذي اعتمدته الإمارات. كما تحافظ عُمان على علاقاتها مع إيران لأسباب مماثلة. والهدف، على الرغم من الخلافات العميقة، هو نزع فتيل الصراع المحتمل مع بقاء الدبلوماسية قابلة للاستمرار.
تحقق هذه الإستراتيجية، سواء حُكم عليها أخلاقيا بأنها صحيحة أم خاطئة، الأمن والتنمية والازدهار الذي يصبو إليه الكثيرون، وهو ما يُمثّل، بلا شك، خيرا أخلاقيا في حد ذاته. ويستبعد تبنيها أيّ عودة إلى النظام القديم.
وحتى لو رغبت أوروبا أو الإدارة الأميركية المستقبلية خلال 2028 في إحياء نظام أكثر تدخلا وقائما على القواعد، فإن هذه الفرصة قد ضاعت بالفعل. وسيواصل مجلس التعاون الخليجي السير على النهج الذي يخدم مصالحه ومصالح شركائه.