ما بعد الاعتراف: تحديات قيام دولة فلسطينية هائلة
في ظل تنامي الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، تلوح في الأفق أسئلة جوهرية تتجاوز الاحتفاء الرمزي بالخطوة الدبلوماسية. فرغم أن هذا التحوّل يعكس تغيرا ملحوظا في المزاج السياسي العالمي تجاه القضية الفلسطينية، إلا أنه يصطدم بواقع ميداني شديد التعقيد، تكرسه السياسات الإسرائيلية على الأرض، والانقسامات الفلسطينية الداخلية، واشتراطات دولية تفتقر إلى أدوات تنفيذ حقيقية.
وبينما يُنظر إلى الاعتراف على أنه مكسب سياسي، فإنه يبقى، في نظر الكثير من المحللين، خطوة غير كافية ما لم تُترجم إلى تحركات ملموسة تتصدى لجذور المأزق القائم.
وفي الوقت الذي يرحب فيه الفلسطينيون بهذا الاعتراف بوصفه خطوة أخلاقية طال انتظارها، تأتي الاستجابة الإسرائيلية غاضبة وقاطعة.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية، رغم أهميته، لا يشكل نهاية الطريق، بل مجرد بداية لمعركة طويلة ومعقدة
ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعتزام عدد من الدول الغربية على رأسها فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية بأنه “مخزٍ”، وكررت حكومته رفضها القاطع لأي حديث عن حل الدولتين.
ويقول الباحث مارتن كير في تقرير نشره موقع ذوكونفسيشن إن في ظل هذا المشهد، يبدو أن الاعتراف، رغم أهميته الرمزية، يواجه تحديات واقعية قد تجعل من قيام الدولة الفلسطينية حلما مؤجلا إلى أجل غير مسمى.
ويشير كير إلى أن أحد أبرز هذه التحديات هو التمدد الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والذي لا يترك أي مجال فعلي لإقامة دولة فلسطينية متماسكة جغرافيًا.
وتمثل المستوطنات، التي اعتبرتها محكمة العدل الدولية غير قانونية، سياسة ممنهجة بدأت منذ عام 1967 بهدفين واضحين: منع تقسيم القدس، وابتلاع ما يكفي من الأراضي لجعل الدولة الفلسطينية غير قابلة للتحقق.
واليوم، يعيش أكثر من 500.000 مستوطن في الضفة، ونحو 233.000 في القدس الشرقية.
وقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية مؤخرا خططا لبناء 22 مستوطنة إضافية، في أكبر توسع استيطاني منذ عقود، وهو ما عُدّ خطوة إستراتيجية “لمنع” الدولة الفلسطينية.
وإلى جانب الاستيطان، يبرز جدار الفصل الإسرائيلي كأداة أخرى لتكريس الوقائع على الأرض.
ويعيد الجدار، الممتد لأكثر من 700 كيلومتر، رسم الحدود فعليًا عبر تقطيع الأوصال الجغرافية الفلسطينية، وعزل المجتمعات، ومصادرة الأراضي الزراعية.
وقد وُصف في أبحاث أكاديمية بأنه جزء من سياسة تهدف إلى “تنقية” الفضاء الإسرائيلي من الوجود الفلسطيني، من خلال فرض فصل قسري بين القرى والمدن الفلسطينية، وتقطيع ما تبقى من روابط داخلية.
وأما على الصعيد الإداري، فإن تعقيدات الضفة الغربية تُفاقم من استحالة قيام الدولة. فرغم أن اتفاقيات أوسلو قسّمت الضفة إلى مناطق ثلاث (أ، ب، ج)، فإن المنطقة الأكبر – “ج”، التي تمثل 60 في المئة من المساحة – لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
ولم تُنفذ الوعود بنقل السلطة للفلسطينيين، بل إن المناطق “أ” و”ب” أصبحت جزرا معزولة داخل بحر من السيطرة الإسرائيلية، ما أدى إلى تفتيت الجغرافيا الفلسطينية وخلق بيئة تشريعية وأمنية معقدة تمنع الحركة وتُعيق السيادة.
ويأتي التحدي الأكبر من الداخل الفلسطيني نفسه، حيث يواجه مشروع الدولة أزمة تمثيل سياسي. فالغرب يشترط ألا تلعب حركة حماس أي دور في الدولة المستقبلية، وهو شرط تدعمه جامعة الدول العربية، مطالبةً حماس بالتخلي عن السلاح والسلطة في غزة. لكن واقع السياسة الفلسطينية لا يمكن تجاوزه بهذه البساطة. فحماس وفتح هما الحركتان الأبرز على الساحة، ولا يمكن تجاهلهما في تشكيل أي حكومة.
وفي خضم التركيز الدولي والإقليمي على حركتي فتح وحماس كمحوري الصراع والتمثيل في الساحة الفلسطينية، يتم تهميش دور القوى المدنية التي لطالما شكّلت العمود الفقري للهوية الوطنية الفلسطينية في الداخل والخارج.
وتشمل هذه القوى النقابات المهنية، والمجتمع المدني، والحركات الشبابية، والمبادرات الحقوقية المستقلة، والتي رغم مساهماتها التاريخية في مقاومة الاحتلال وتنمية الوعي السياسي، تُستبعد بشكل ممنهج من أي نقاش جاد حول مستقبل الدولة الفلسطينية وإعادة بناء النظام السياسي.
وما يُفاقم هذا التغييب هو النظرة الفوقية التي تتبناها الأطراف الرسمية والدولية تجاه هذه القوى، إذ يتم التعامل معها غالبا كأدوات تنفيذية أو مكمّلات شكلية لجهود الإغاثة أو “تمكين الديمقراطية”، لا كفاعلين سياسيين قادرين على بلورة مشروع وطني جامع. كما أن العديد من الجهات الدولية المانحة ساهمت، عن غير قصد، في تحويل منظمات المجتمع المدني إلى كيانات بيروقراطية مرتبطة بأجندات تمويل مشروطة، ما أضعف استقلاليتها، وأبعدها عن الفعل السياسي المباشر.
وأما على مستوى الداخل الفلسطيني، فإن الحركات الشبابية والمبادرات المستقلة تواجه تحديات مركّبة، بدءًا من القمع الأمني في الضفة وغزة، مرورًا بضعف الأطر الحزبية الديمقراطية، وانتهاءً بانعدام الأفق السياسي.
ويظل أي تصور مستقبلي للدولة الفلسطينية ناقصًا إن لم يُعِد الاعتبار للطاقات المدنية المتروكة على الهامش، والتي تمتلك من الكفاءة والشرعية الاجتماعية ما يُمكنها من أن تكون شريكا أصيلا في بناء دولة قانون ومؤسسات.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن ثقة الفلسطينيين في القيادة الحالية تتراجع، حيث يطالب 80 في المئة من الشعب باستقالة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، مما يعكس أزمة شرعية داخلية تضاف إلى التحديات الخارجية.
وبينما ترى بعض الدول الغربية أن “سلطة فلسطينية مُصلحة” هي الخيار الأمثل للحكم، فإن فرض هذا النموذج من الخارج يُفقده الشرعية الشعبية.
ومن شأن استبعاد أطراف فلسطينية رئيسية أن يعيد تكرار تجارب التدخل الغربي الفاشلة في العراق وأفغانستان، ويمنح المتشددين ذريعة لرفض أي مشروع سياسي جديد، ويعزز السردية الإسرائيلية بأن الفلسطينيين غير مؤهلين للحكم الذاتي.
وفي ظل هذه المعطيات، يتضح أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، رغم أهميته، لا يشكّل نهاية الطريق، بل مجرد بداية لمعركة طويلة ومعقدة.
ويتطلب تحول الاعتراف إلى واقع أكثر من النوايا الحسنة. إذ يتطلب إرادة سياسية، واستعدادا لتحمل الكلفة السياسية، وإدراكا بأن الوقت لا يعمل لصالح السلام. فكل تأخير، وكل صمت عن الاستيطان، وكل تجاهل لانقسام الساحة الفلسطينية، يُقرب حلم الدولة الفلسطينية من حافة التلاشي.