العالم يشهد سباق تسلح نووي جديدا بقواعد أكثر هشاشة

وكالة أنباء حضرموت

مع نهاية الحرب الباردة تنفّس العالم الصعداء وهو يرى عدد الرؤوس النووية يتراجع عامًا بعد آخر، مدفوعًا بسلسلة من الاتفاقات الدولية والضغوط الشعبية والسياسية والاقتصادية الهائلة لاستخدام هذا السلاح. لكن بعد نحو ثلاثة عقود، يُظهر الواقع أن هذا الهدوء كان أقرب إلى الهدنة المؤقتة منه إلى السلام الدائم.

وأصدر المعهد الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم (سيبري) تقريره السنوي مطلع هذا الأسبوع، محذرًا من مؤشرات متسارعة على انطلاق سباق تسلّح نووي جديد، تقوده قوى تقليدية مثل الولايات المتحدة وروسيا، وأخرى صاعدة مثل الصين والهند.

واللافت أن هذا السباق لا يجري فقط عبر الأرقام، بل على مستويات أكثر تعقيدًا تشمل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني.

ويمثّل أحد أبرز التطورات في العامين الأخيرين النمو المتسارع للترسانة النووية الصينية. فبحسب التقرير، ارتفع عدد الرؤوس النووية لدى بكين إلى نحو 600 رأس، مقارنة بـ400 فقط عام 2022. ويُتوقّع أن يتضاعف هذا العدد ليصل إلى ألف بحلول 2032.

القوى الكبرى لم تكتفِ بتطوير رؤوس نووية جديدة، بل أدخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي والأتمتة إلى أنظمة التحكم والتوجيه في تطور خطير

ويرى خبراء أن الصين لم تعد ترى في امتلاك “حد أدنى من الردع” خيارًا كافيًا، بل تتجه نحو صياغة دور نووي مستقل في مواجهة الولايات المتحدة، وفي ظل توترها المتزايد مع الهند من جهة، والتحالفات الغربية حول بحر الصين الجنوبي من جهة أخرى.

ويضع هذا التصاعد الصيني مزيدًا من الضغط على النظام الدولي لضبط التسلح، ويقوّض فلسفة الردع المحدود التي قامت عليها معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.

ويقول خبراء إن الخطر ليس في الأعداد وحدها، بل في نوعية السباق. إذ يُظهر التقرير أن القوى الكبرى لم تكتفِ بتطوير رؤوس نووية جديدة، بل أدخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي والأتمتة إلى أنظمة التحكم والتوجيه النووية، في تطور يصفه المعهد بـ”المفصلي والخطر.”

وحذر مدير المعهد دان سميث، من مستقبل “يتم فيه اتخاذ القرارات النووية المعقدة بوساطة أنظمة مؤتمتة قد تخطئ الحساب أو تتعرض للاختراق،” مضيفًا أن “المرحلة التالية ستكون الأتمتة الكاملة، وهذا ما يجب أن نمنعه بكل الوسائل.”

ويثير هذا التوجّه نحو “أتمتة الردع” مخاوف من فقدان السيطرة البشرية في لحظات الأزمة، وقد يقود إلى سيناريوهات كارثية تشبه تلك التي حذّر منها كتّاب الخيال العلمي، لكن هذه المرة على أرض الواقع.

اللافت أن هذا السباق لا يجري فقط عبر الأرقام، بل على مستويات أكثر تعقيدًا تشمل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني

وأما على مستوى القوى النووية التقليدية، فتبدو الولايات المتحدة وروسيا في حالة “استعداد مستمر”، إذ يُظهر التقرير أن الدولتين تواصلان تحديث وتوسيع ترسانتيهما، في ظل انهيار عدد من الاتفاقات الثنائية (مثل اتفاقية ستارت الجديدة) والتوترات الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، وتزايد الانخراط العسكري في أوروبا الشرقية والقطب الشمالي.

وحتى بريطانيا وفرنسا، رغم التزامهما العلني بمعاهدة عدم الانتشار، واصلت الأولى رفع سقف عدد رؤوسها، بينما تعمل الثانية على تحديث بنيتها النووية الإستراتيجية.

ورغم صمت إسرائيل التقليدي حيال ترسانتها النووية، يقدّر “سيبري” أنها تمتلك نحو 90 رأسًا نوويًا، مع وجود مؤشرات على تحديث تلك الترسانة. وفي شبه القارة الهندية، تواصل الهند وباكستان تطوير نواقل أسلحتهما النووية، مع زيادة طفيفة في عدد الرؤوس خلال عام 2024.

ويجعل هذا التنافس المستمر، في منطقة شهدت ثلاث حروب تقليدية، من أيّ تصعيد مستقبلي احتمالًا خطيرًا لا يمكن تجاهله، خصوصًا في غياب آليات فعالة لإدارة الأزمات النووية.

ولا يمثل ما رصده تقرير “سيبري” مجرد أرقام أو توقعات، بل يعكس تحوّلاً عميقًا في بنية النظام العالمي لامتلاك واستخدام السلاح النووي. فبدلاً من نزع السلاح أو ضبطه، تتجه القوى الكبرى والصاعدة نحو توسيع ترساناتها وتحديثها، بينما تنهار تدريجيًا الثقة بالاتفاقات الدولية، وتغيب الشفافية والمساءلة.

كما أن دخول التكنولوجيا المتقدمة ـ خصوصًا الذكاء الاصطناعي ـ إلى صميم أنظمة الردع النووي، يُضيف طبقة جديدة من الغموض والمخاطرة، ويطرح أسئلة وجودية: من يملك القرار الأخير؟ وما مدى أمان أنظمة الحكم والتوجيه في زمن الاختراقات السيبرانية؟

وفي ظل هذا المشهد، يبدو أن البشرية تعود بخطى متسارعة إلى منطق الحرب الباردة، ولكن بنُظم تسليح أكثر تطورًا، ونظام دولي أقل استقرارًا، وتوازنات إستراتيجية أقرب إلى الانفجار منها إلى الردع.