بريطانيا تشدد سياسة الهجرة في محاولة لاحتواء زخم اليمين المتطرف
في لحظة سياسية حساسة يتداخل فيها تصاعد اليمين المتطرف مع ضغوط الرأي العام، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاثنين عن سلسلة من السياسات الجديدة للهجرة، وصفها بأنها محاولة “لاستعادة السيطرة على حدود بريطانيا،” مستدعيا بوضوح شعار حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016.
ويعكس هذا التحول اللافت من حزب العمال، الذي كان تاريخيا أكثر انفتاحا على قضايا الهجرة والتعددية، تغيرا عميقا في أولويات الحزب تحت قيادة ستارمر، ويطرح تساؤلات جدية حول التوازن بين الواقعية السياسية والهوية الفكرية.
ويتضمن الكتاب الأبيض الجديد بشأن الهجرة الذي أعلنت عنه الحكومة تشديدا واسعا في السياسات: رفع مدة الإقامة المطلوبة للحصول على الجنسية من خمس إلى عشر سنوات، فرض متطلبات لغوية على المعالين، تقليص مدة بقاء الطلاب الدوليين بعد الدراسة، خفض عدد تأشيرات العمل في مجال الرعاية، واشتراط شهادات جامعية للعمال المهرة.
وإضافة إلى ذلك، تعتزم الحكومة توسيع صلاحيات الترحيل لتشمل الأجانب المدانين بجرائم، حتى أولئك الذين لم تصدر بحقهم أحكام بالسجن.
ويبدو واضحا أن ستارمر يسعى لإحداث قطيعة سياسية ونفسية مع ما وصفه بـ”فصل مُزرٍ” من تاريخ بريطانيا، أُسِّس على تساهل مفرط تجاه الهجرة. لكن هذه السياسات، وإن كانت تهدف إلى استعادة الثقة الشعبية، لا تخلو من مخاطرة سياسية.
توجه كير ستارمر بشأن الهجرة يدفع قاعدة حزب العمال الواسعة من المؤيدين الليبراليين إلى النفور
وتأتي هذه السياسات في أعقاب اختراق انتخابي لحزب الإصلاح بقيادة نايجل فاراج، الذي حصد المئات من المقاعد في المجالس المحلية، مستغلا شعورا متزايدا في الشارع البريطاني بأن الحكومة – أيّا كان لونها – فقدت السيطرة على الحدود.
ويبدو هذا التحول الخطابي من حزب العمال كأنه محاولة لمزاحمة اليمين على أرضه، غير أن هذه الخطوة تهدد بإثارة نفور قاعدة الحزب الليبرالية، التي بدأت أصلا في الاتجاه نحو الليبراليين الديمقراطيين والخضر.
ولم تتأخر الانتقادات، خاصة من داخل قطاعات متأثرة مباشرة بهذه السياسات. ففي قطاع الرعاية الصحية والاجتماعية، وُصفت الإجراءات بأنها “ضربة قاصمة” لبنية تعاني أصلا من نقص حاد في الكوادر.
وعبرت منظمات مثل “كير إنغلاند” عن خشيتها من أن تؤدي القيود الجديدة إلى انهيار تدريجي في تقديم الخدمات الأساسية، معتبرة أن الحكومة تتصرف بـ”قصر نظر” وتفتقر إلى بدائل واقعية.
وأما في ملف الهجرة غير النظامية، فقد عززت الحكومة من خطابها الأمني، مشيرة إلى ضرورة الحد من عبور المهاجرين للقناة الإنجليزية على متن قوارب مطاطية.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن أكثر من 36 ألف مهاجر قاموا بهذه الرحلة في عام 2024، توفي منهم 84 شخصا على الأقل، بينهم 14 طفلا.
وبينما يناقش البرلمان البريطاني مشروع قانون إضافي لمعالجة هذه الظاهرة، تتصاعد مخاوف منظمات حقوق الإنسان بشأن غياب أيّ إطار إنساني حقيقي ضمن هذا النهج الجديد.
ويجد كير ستارمر، الذي بدأ مسيرته كمحامٍ في مجال حقوق الإنسان، نفسه الآن في موقع من يفرض أكثر سياسات الهجرة صرامة منذ سنوات.
وبينما يؤكد أن الهدف هو خفض الأعداد “بشكل ملحوظ” قبل الانتخابات المقبلة في 2029، يرفض تحديد رقم واضح لهذا الخفض.
وفي تصريحاته، لا يتوانى عن مهاجمة النموذج الاقتصادي الذي اعتمد – كما يقول – على “العمالة الرخيصة” بدلا من تدريب الشباب البريطاني.
لحظة سياسية حساسة
وتكمن المفارقة في أن الحزب الذي لطالما رفع لواء التعددية والاندماج، يبدو اليوم وكأنه يسير في اتجاه إعادة تعريف ذاته كحزب للأمن وضبط الحدود.
وتأتي التحولات في سياسة الهجرة البريطانية في سياق إقليمي ودولي معقد، إذ تشهد أوروبا صعودا متزايدا لأحزاب اليمين القومي والشعبوي، وسط تحوّلات اقتصادية ما بعد الجائحة، وضغوط الحرب في أوكرانيا، وأزمات لجوء مستمرة من أفريقيا والشرق الأوسط.
وفي بريطانيا، ظلت قضية الهجرة عنصرا مركزيا في الخطاب السياسي والجدل المجتمعي منذ استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، الذي اتُخذ شعار “استعادة السيطرة على حدودنا” إحدى دعائمه المحورية.
وينظر إلى هذه السياسات كجزء من محاولة لإعادة تموضع حزب العمال أمام جمهور انتخابي أصبح أقل تسامحا مع معدلات الهجرة المرتفعة، لاسيما بعد سنوات من التقشف، وتدهور الخدمات العامة، وأزمة الإسكان.
وقد تآكلت الثقة بقدرة الطبقة السياسية على إدارة ملف الهجرة بفاعلية، وهو ما استغلته الأحزاب اليمينية في توسيع قاعدتها الانتخابية. وأظهر صعود حزب الإصلاح في الانتخابات المحلية الأخيرة أن الضغط على حزب العمال لا يأتي فقط من المعارضة المحافظة، بل من يمين جديد أكثر تطرفا واستقطابا.
من جانب آخر، تشكل هذه التوجهات اختبارا دقيقا لمعادلة “البراغماتية السياسية” التي يتبناها ستارمر، والذي يسعى إلى تقديم نفسه كقائد عملي قادر على اتخاذ قرارات غير شعبوية، حتى لو اصطدمت بثوابت تقليدية داخل حزبه. غير أن محاولته توسيع قاعدة الناخبين المعتدلين والميل إلى خطاب أكثر “صرامة” في ملف الهجرة، تهدد في الوقت ذاته بخسارة قطاعات من اليسار الليبرالي، التي ترى في هذه التوجهات تنازلا فكريا مقلقا.
وأما اقتصاديا، فتعقيدات سوق العمل البريطاني لا تزال تفرض واقعا يتعارض مع الشعارات السياسية. فهناك قطاعات، كالرعاية الصحية والاجتماعية والبناء والزراعة، تعتمد بشكل كبير على العمالة الأجنبية، وغالبا ما تواجه صعوبة في توظيف محليين بنفس الكفاءة أو الرغبة في العمل ضمن ظروف مهنية صعبة وأجور منخفضة. وبالتالي، فإن أيّ تقليص مفاجئ في تدفق العمال الأجانب قد يؤدي إلى اضطرابات حقيقية في تقديم الخدمات الأساسية.
ستارمر يسعى لإحداث قطيعة سياسية ونفسية مع ما وصفه بـ"فصل مُزرٍ" من تاريخ بريطانيا، أُسِّس على تساهل مفرط تجاه الهجرة
وفي العقدين الأخيرين، خاضت الحكومات البريطانية المتعاقبة عدة محاولات لتشديد قوانين الهجرة، غالبا تحت ضغط سياسي وشعبي متزايد، لكن معظم هذه السياسات لم تحقق الأهداف المعلنة بشكل فعلي، بل أدت أحيانا إلى نتائج عكسية أو آثار جانبية غير مقصودة.
وكانت إحدى أبرز محاولات تشديد الهجرة عندما كانت تيريزا ماي وزيرة للداخلية، حيث تبنت سياسة تُعرف بـ”البيئة العدائية” بهدف جعل الحياة في المملكة المتحدة صعبة للمهاجرين غير النظاميين.
وشملت الإجراءات قيودا على تأجير السكن، والعمل، وفتح حسابات مصرفية، والحصول على الخدمات الصحية. لكن هذه السياسة تعرضت لانتقادات واسعة بعد فضيحة “ويندراش” عام 2018، حين تضرر مواطنون من دول الكاريبي كانوا يقيمون بشكل قانوني، ما كشف عن هشاشة نظام التحقق من الوضع القانوني وأدى إلى تراجع ثقة الجمهور في النظام ككل.
ومنذ عهد رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون، أعلنت الحكومة هدفا طموحا يتمثل في تقليص صافي الهجرة إلى أقل من 100 ألف شخص سنويا. لكن هذا الهدف لم يتحقق قط، بل استمرت الأرقام في الارتفاع، خاصة مع فتح الباب أمام اللاجئين السوريين، والوافدين من هونغ كونغ وأوكرانيا لاحقا، وكذلك بسبب نقص اليد العاملة بعد البريكست وجائحة كوفيد – 19.
واستبدلت بريطانيا نظام حرية التنقل الأوروبي بنظام قائم على النقاط، يمنح التأشيرات بناءً على المهارات، المؤهلات، والرواتب. ورغم أنه خفّض أعداد الوافدين من الاتحاد الأوروبي، فإن أعداد المهاجرين من خارج أوروبا ارتفعت بشكل كبير، خاصة في مجالات الرعاية الصحية، مما دفع بعض المراقبين إلى اعتبار النظام مرنا أكثر مما كان متوقعا، وعاجزا عن تحقيق وعد ضبط الحدود.
وشملت هذه المحاولات إبرام اتفاقية مثيرة للجدل مع رواندا لترحيل طالبي اللجوء، والتي جُمّدت لاحقا بسبب تحديات قانونية ودستورية. ورغم تشديد الرقابة في بحر المانش، فإن أعداد المهاجرين الذين يصلون على متن قوارب صغيرة لم تنخفض بشكل جوهري، ما يضعف فعالية المقاربة الأمنية وحدها.
ويرى محللون أن غالبية المحاولات لتقليص الهجرة كانت مدفوعة باعتبارات سياسية، لكنها اصطدمت بالواقع الاقتصادي والديموغرافي، حيث تعتمد بريطانيا على العمالة الأجنبية في قطاعات أساسية. كما أن التشدد لم يؤد إلى انخفاض دائم في الأعداد، بل أسهم أحيانا في تفاقم التهريب واللجوء غير النظامي، وأثار جدلا واسعا بشأن التوازن بين ضبط الحدود وحماية حقوق الإنسان.