أطفال اليوم لا تستهويهم نهايات القصص المثالية السعيدة
يميل بعض الكُتاب إلى التخصص في الكتابة للأطفال، برغم أن لهم أعمالا في فنون الكتابة الأخرى. فلماذا يفعلون ذلك؟ يبدو السؤال منطقيا في ظل ما يقال أحيانا حول قلة شهرة كُتاب الأطفال بالمقارنة بغيرهم، وصعوبة الكتابة للصغار بوجه عام. شيءٌ خفيٌّ يجذب كثيرين إلى هذا العالم فيسيرون إليه بإرادتهم متجاوزين الصعاب.
الأديبة المصرية فاطمة وهيدي، نشرت أعمالا عدة في فنون القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا والشعر والنصوص النثرية، إلا أنها تميل إلى عالم الكتابة للصغار من اليافعين والأطفال، وجاء آخر أعمالها هذا العام متمثلا في رواية “13 درجة تحت الماء” رواية لليافعين، صدرت عن دار روافد للنشر والتوزيع بمصر.
خطة ودراسة
تكشف وهيدي لـ”العرب” أنها حينما بدأت في ممارسة الكتابة ونشر القصص والشعر لم يكن لديها دافع أو مشروع أدبي واضح ومحدد، إنما كانت تكتب فقط لأنها تجد متعة في ذلك، أما الكتابة للأطفال واليافعين فإنها لم تأتِ على هذا النحو، بل في ضوء خطة ودراسة.
تتناول رواية “13 درجة تحت الماء” قصة طالب في المرحلة الثانوية لديه شغف بالبحث والاستكشاف والسفر، يشارك في مسابقة عالمية دون علم والديه، وكانت جائزة المسابقة هي المشاركة في رحلة استكشافية تحت الماء بإحدى الدول الأوروبية.
وهنا نشأ لديه التحدي بأن يقنع والديه بالموافقة على سفره ومشاركته في هذه الرحلة أولا، ثم كيفية التعامل مع أشخاص عدة من دول مختلفة، لكل منهم ثقافته ولغته وأفكاره واهتماماته. وتتطور الأحداث باختطافه، ليعرف القارئ كيف سينجو البطل من هذه الأزمة.
تقول الكاتبة إن هذه هي أول رواية تكتبها لليافعين، بعد قصص عديدة نشرتها للأطفال، ولم يكن فن الرواية مجرد اختيار أدبي للشكل الذي تريد من خلاله طرح موضوع معين وتسليط الضوء عليه فقط، إنما هي مسؤولية ثقافية وإنسانية تحمل العديد من الدوافع، فمرحلة الطفولة والمراهقة هي فترة حاسمة في تشكيل القيم والمبادئ، وللأدب دور مهم في غرس مفاهيم الثقة بالنفس والصداقة والتسامح، والقدرة على الإقناع، وتحديد الأهداف والسعي إلى تحقيقها، ومن هنا جاءت فكرة الرواية.
سعت الكاتبة في رواية “13 درجة تحت الماء” إلى أن تقدم فكرة مفادها أن الشباب قادرون على بناء هوياتهم وتحديد مساراتهم في الحياة، بشرط دعم الأسرة وإيمانها بقدرات أبنائها، كما طرحت قضايا عدة ترتبط بتعلق الشباب بالتطبيقات الإلكترونية مثل تيك توك وغيره، وحلم الثراء السريع على غرار المشاهير في هذه التطبيقات، والاستفادة من تجارب الآخرين والتفكير بطرق غير تقليدية، وتعلم لغات مختلفة. وحاولت أن يأتي كل ذلك بأسلوب مشوق، غير مباشر، بعيدًا عن النصائح والرسائل الوعظية.
تعتبر وهيدي أن الكتابة للطفل من أكثر أنواع الكتابة الأدبية دقة وتحديا، برغم أنها تبدو بسيطة في ظاهرها، فالكاتب يحتاج إلى فهم نفسيات الأطفال وطرق تفكيرهم ومشاعرهم، التي تختلف كثيرًا عن عالم الكبار، فما يجذب الكبار قد لا يجذب الطفل، والعكس صحيح، لذلك يجب أن يكتب الأديب بلغة الطفل، ويشعر بعالمه، ويتقمص رؤيته للأشياء.
وتؤكد لـ”العرب” أن الطفل لا يحب الوعظ المباشر، لكنه في الوقت نفسه بحاجة إلى رسائل تربوية وقيمية، وهنا تكمن الصعوبة، إذ كيف تقدم المعنى العميق في قالب مشوق دون أن يشعر الطفل بأنك تُعلمه أو تُلقنه؟ كما أن اللغة يجب أن تكون بسيطة وواضحة، دون أن تصبح سطحية أو مفرغة من الجمال، وأن تُراعي الفئة العمرية المستهدفة بدقة، لأن ما يناسب طفلا في السادسة لا يناسب يافعا في الثانية عشرة.
ولا بد كذلك – كما تقول – من اختيار موضوع يجذب الطفل، فيشعر بأنه يعكس اهتماماته ومخاوفه وأحلامه، وهذا أمر في غاية الدقة، فبعض الموضوعات قد يكون ثقيلا أو غير مفهوم بالنسبة إليه، وبعضها قد يُنظر إليه باعتبار أنه “طفولي” زيادة عن الحد.
وبرغم أن الطفل يحب الخيال، إلا أن الكاتبة ترى أن الخيال يجب أن يكون منسجمًا مع الواقع إلى حد ما، بأن يكون ممتعًا لكنه في الوقت نفسه مقنع، وإلا شعر الطفل بالملل أو فقد ثقته في ما يقرأ.
وتقول لـ”العرب”، “يجب ألا نغفل أن أطفال اليوم يختلفون عن أطفال الأمس، فهم أكثر اتصالا بالتكنولوجيا، وأكثر وعيا، لذا يجب أن تكون الكتابة معاصرة، وتلامس واقع الطفل اليوم، وتستخدم رموزه وعناصر اهتمامه الحديثة والمتعلقة بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي.”
لم تعتمد فاطمة وهيدي قبل الكتابة للأطفال واليافعين على القراءة فقط، إنما لجأت إلى التأمل، في سلوكياتهم واهتماماتهم، وردود أفعالهم ولغتهم. ولم تكتفِ بذلك، بل درست دبلومة العلاج بالفنون وتعديل السلوك في كلية التربية النوعية بجامعة عين شمس في مصر، لتتزود بالأساليب العلمية الأكاديمية والحديثة، الأمر الذي أتاح لها فرصة قراءة كتب أكثر تخصصا ومشاهدة أفلام تتعلق بالاضطرابات السلوكية في مرحلة الطفولة والمراهقة وكيفية التعامل معها وتعديلها باستخدام الرسم والموسيقى والألعاب والتمثيل.
توازن دقيق
خيط رفيع، وربما أكثر، يحتاج الكاتب إلى السير فوقه للوصول إلى عالم الأطفال، كي يوازن بين تقديم قيم نبيلة للطفل وعدم فصله عن الواقع في الوقت نفسه، فلا ينبغي تصوير العالم للصغار كأنه مدينة فاضلة حتى لا يصدمهم الواقع عندما يكبرون ويواجهونه، ولا يمكن أيضا أن نصدم الطفل مبكرا بالكتابة له عن قبح الواقع، فكيف يمكن تحقيق هذه المعادلة؟
تشدد وهيدي في حوارها مع “العرب” على أن الكتابة للطفل تتطلب توازنا دقيقا بالفعل بين تقديم القيم النبيلة وعدم تصوير العالم بصورة مثالية مفرطة، حتى لا يصاب الطفل بصدمة عند مواجهة الواقع. ولتحقيق هذا التوازن فإنها تقوم بتقديم شخصيات تحمل صفات إيجابية وأخرى تحمل صفات سلبية مع التركيز على كيفية مواجهة التحديات واتخاذ القرارات.
وتحاول الكاتبة دائمًا عدم اللجوء إلى النهايات المثالية السعيدة، إنما تضع أحيانا خيارات أمام الطفل ليتعرف على تنوع النتائج في الحياة، بالإضافة إلى أن أسلوب طرح الأسئلة داخل النص يؤدي إلى تشجيع الطفل على التفكير ويطور قدرته على اتخاذ القرار.
الطفل لا يحب الوعظ المباشر، لكنه في الوقت نفسه بحاجة إلى رسائل تربوية وقيمية، وهنا تكمن الصعوبة
تناولت قصة “الملاك السعيد” مسألة اختلاف لغة الإشارة من دولة إلى أخرى، واقترح الطفل بطل القصة أن يتم توحيد قواعد لغة الإشارة عالميا حتى لا يعاني الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة من عدم فهمهم في حالة انتقالهم من بلد إلى آخر.
وطرحت قصة “عصام وأيام الصيام” موضوعات من واقع الحياة اليومية ليتعرف الطفل على المشكلات المحتملة وكيفية مواجهتها والتعامل معها بطريقة بناءة. وفي إحدى قصص الكاتبة يقوم الطفل بتعديل سلوك جده المُدخن بأسلوب لائق محترم.
شاركت الكاتبة المصرية بإقامة ورش حكي للأطفال في معرض القاهرة الدولي للكتاب في ثلاث دورات له بدءًا من عام 2022، وفي مهرجان مغرب الحكايات في الرباط في 2023، ومشاركات عديدة لها في ورش الحكي في مؤسسات تعليمية وثقافية في القاهرة والدار البيضاء وطنجة.
ويطرح السؤال نفسه بقسوة، حول ما إذا كان الطفل ما زال يقرأ أصلا الكتب الورقية في عصر التحول الرقمي وسيطرة أجهزة الهواتف المحمولة التي لا يكاد الصغار يفلتونها من أيديهم.
تجيب فاطمة وهيدي بحسم “نعم الطفل في عالم الديجيتال ما زال يقرأ ورقيا، لكنه يحتاج إلى أسلوب مختلف في التقديم والتواصل.”
وتشرح ذلك بالتفصيل مؤكدة أن الأطفال ما زالوا يحبون الكتب الورقية، خاصة في الأعمار الصغيرة (من سن 3 إلى 8 سنوات)، لأنهم يتفاعلون عبر اللمس وتقليب الصفحات، والصور والألوان. وتشير إلى بعض الدراسات التي أكدت أن القراءة الورقية تساعد في التركيز والاستيعاب أكثر من الرقمية، خصوصا عند الأطفال. كما تدعم الكثير من المدارس والمكتبات القراءة الورقية كجزء من تنمية المهارات اللغوية.
وتعترف الأديبة المصرية بالتحديات التي تواجه الكاتب في هذا الإطار، معتبرة أن التحدي الأكبر هو المنافسة مع الشاشات: الألعاب، الفيديوهات، التطبيقات، وغيرها.
وتقول لـ”العرب”، “لذلك يجب أن نكتب للطفل بلغته البصرية، كأن نستخدم جملا قصيرة، ومشاهد حيوية، وحوارا سريعا، وأن نجعل القصة تشبه اللعبة أو المغامرة، بحوافز وتشويق. كما يأتي دور الناشر والرسام ليكون الكتاب ممتعا من خلال الألوان الجذابة والرسوم المعبرة، وربما التفاعلية (أي أن تُفتح الصفحات بطرق غريبة، وملمس مختلف، ومجسمات، ومفاجآت)، بالإضافة إلى أن تصميم الغلاف مهم جدا حتى يكون جاذبا للطفل ليختار الكتاب بنفسه.”
وهناك وسائل أخرى لمواجهة تحديات جذب الطفل للقراءة، تضيفها الكاتبة، ومنها إمكانية ربط القصة بتجربة ملموسة، ككتابة قصة عن نبتة ثم يُطلب من الطفل زرع بذرتها، أو قصة عن نجم ثم يُطلب من الطفل رسم صورته ولصقها في غرفته، كما يمكن أن يشارك الطفل في القصة، كأن يُترك له فراغ في النص ليرسم مشهدًا بنفسه، أو يسأله الكاتب سؤالا في نهاية القصة ليجيب بطريقته.
ولا ترتبط إجادة الإبداع في مجال الكتابة للطفل بالمرأة انطلاقا من غريزة الأمومة، في نظر فاطمة وهيدي، إذ يوجد كُتاب كبار مبدعون من الرجال في هذا المجال، مثل كامل الكيلاني رائد أدب الأطفال في مصر، والأديب أحمد محمود نجيب صاحب سلسلة “الشاطر حسن”، والمبدع عبدالتواب يوسف الذي نال العديد من الجوائز الأدبية، ويعقوب الشاروني.
ومن الدول العربية هناك الكاتب السعودي يعقوب محمد إسحاق الملقب بـ”بابا يعقوب” وله أكثر من ثلاثمئة قصة للأطفال، بل إن اليوم العالمي لكتاب الطفل الموافق للثاني من أبريل تم اختياره ليتزامن مع يوم ميلاد الكاتب الدانمركي هانز كريستيان أندرسن، وهو من أشهر كتاب الأطفال في العالم، تكريما له ولإرثه في عالم الكتابة للطفل.
وترى أن الكثير من الكاتبات يبدأن بالحكي لأطفالهن ثم ينطلقن إلى عالم النشر في مجال الكتابة للصغار، كما أن المرأة تمتلك حسا تعبيريا تربويا يتوافق مع أدب الطفل، فضلا عن امتلاكها فهما للاحتياجات اللغوية والنفسية للطفل.
لكل فن مذاقه
صدرت للأديبة المصرية دواوين شعرية ومجموعات قصصية عدة، ففي الشعر والنصوص النثرية لها “تقاسيم على وتر الشوق”، و”وِرد الغياب”، و”قبل مشرق الحب بنبضة”، و”شذرات عتَّقها الهوى”، ومن المجموعات القصصية “لا عزاء للحلم”، و”قلوب ضالة” التي تمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، و”ما لن تقوله شهرزاد (قصص كسيرة جدا)” التي تمت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.
لا تقرر وهيدي أن تجلس لتكتب نصا شعريا أو قصصا، إنما تفرض الفكرة قالب الكتابة الخاص بها، وحينما تكتمل الفكرة في رأس الكاتبة فإنها تخرج في القالب المناسب لها دون إرادتها، فيما عدا الكتابة للأطفال واليافعين فهي فقط التي تخطط بشكل دقيق لها من حيث الشكل والمضمون.
ولكل فن مذاقه وسبب لحبه عند الكاتبة المصرية، فالشعر مثلا يعبر عنها – كما تقول – بلا أي رتوش أو تجميل، والقصة تمكنها من طرح كل التساؤلات والمخاوف التي تؤرقها بلا مواربة، وتتيح لها التعبير عن المسكوت عنه دون الحاجة إلى مبررات أو أسباب، أما الكتابة للصغار فهي الساحة التي تشعر فيها بأنها تقدم شيئا ليبقى؛ “إنه الأثر الذي ربما يتحدث عنه الآخرون ذات يوم، والقيمة التي لو أثرت في طفل واحد سأكون وصلت إلى غايتي من الكتابة.”
حصلت وهيدي على جائزة مهرجان الناظور للقصة القصيرة جدا في المغرب عام 2016، وتم تكريمها بجامعة كالينجا الهندية في مهرجان كالا نيرفاتا الدولي الثالث للفنون والثقافة في 2015، وضمت قائمة الشرف في مسابقة سينيكا للشعر في باري بإيطاليا اسمها، وشاركت العام الماضي في معتزلات الكتابة الأدبية (مجال القصة القصيرة) بمدينة القصيم في السعودية.
تسأل “العرب” الكاتبة فاطمة وهيدي حول موقفها من فن الرواية، فتكشف أنها خاضت غمار كتابة الرواية بالفعل لكنها لم تنشر روايتها، وكانت حول سيرة حياة أول طبيبة مصرية توحيدة عبدالرحمن، شقيقة أول محامية مصرية مفيدة عبدالرحمن، وكان اسم الرواية “تي تي المصرية”، لكن لم يكتمل المشروع بسبب ظروف مرض والدتها ومرافقتها إياها آنذاك.
وشاركت في تجربة كتابة فصل في رواية مشتركة مع 16 كاتبا وكاتبة من اليمن والسعودية ضمن ورشة كتابة، وتم نشر الرواية بالفعل باسم “كهنوف” وطُبعت منها طبعتان، لتكون أول رواية مشتركة تطبع في الوطن العربي عام 2016.
وتعتبر الكاتبة أن رواية “13 درجة تحت الماء” لليافعين تعد تجربة فعلية في كتابة الروايات وإن كانت تخص مرحلة عمرية محددة، لكنها بشكل عام تتوافر فيها كل مقومات وأركان كتابة الرواية.