محادثات الحدود اللبنانية - السورية تكبح جماح حزب الله وتعزز الأمن
يرى محللون أن تشجيع المحادثات الجديدة بشأن الحدود التي تتوسط فيها السعودية بين لبنان وسوريا، يمكن أن يؤدي إلى كبح جماح حزب الله واحتواء التهريب وتحقيق الاستقرار على حدود لبنان الأخرى مع إسرائيل.
وفي الثامن والعشرين من مارس الماضي، التقى وزير الدفاع اللبناني ميشال منسى ونظيره السوري مرهف أبوقصرة في المملكة العربية السعودية لتوقيع اتفاقية لترسيم حدودهما المشتركة وتعزيز التنسيق الأمني الثنائي. وقد حفزت الاشتباكات العنيفة بين قوات الجيش السوري وعناصر حزب الله هذه المحادثات.
وتقول الباحثة حنين غدار في تقرير نشره معهد واشنطن إن الحكومتين الجديدتين رغم أنهما لم ترسما الحدود النهائية بعد، إلا أن الاتفاقية تمثل خطوة أولى مهمة نحو هذا الهدف. وبشكل أكثر تحديدا، التزم منسى وأبوقصرة بإنشاء “لجان قانونية ومتخصصة” ثنائية وتفعيل “آليات تنسيق لمواجهة التهديدات الأمنية”. وتتساءل غدار: ماذا يعني هذا التعهد عمليا، وما هي العقبات التي سيواجهانها في التوصل إلى اتفاقية حدود دائمة؟
ولطالما كان ترسيم الحدود اللبنانية – السورية قضية مثيرة للجدل، وهي قضية تهرب منها نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد والحكومات المتعاقبة في بيروت باستمرار بعد حرب حزب الله وإسرائيل عام 2006. ويعود غياب حدود واضحة إلى نهاية العهد العثماني عام 1916، عندما منحت اتفاقية سايكس بيكو المناطق التي ستصبح سوريا ولبنان الحديثتين للفرنسيين، الذين بدورهم قسّموا مناطق انتدابهم إلى كيانات ذات حدود غامضة.
ورُسمت بعض أجزاء الحدود عام 1934، لكن العديد منها بقي دون تحديد. ولاحقا، رفض نظام الأسد ترسيم الحدود لأنه لم يعترف رسميا بلبنان كدولة مستقلة، معتبرا إياه جزءا من “سوريا الكبرى”. ومن جانبه، لم ير حزب الله أي فائدة في دفع بيروت لترسيم حدود، لأن الحدود غير المحكمة كانت أكثر فائدة لعمليات التهريب المتفشية للمخدرات والأموال والأسلحة وغيرها من المواد.
وازداد هذا النشاط مؤخرا، مع تزايد حاجة حزب الله إلى مساعدة خارجية في ظل سقوط شريكه في النظام في دمشق، وإغلاق “الجسر البري” الإيراني إلى لبنان، والانتكاسات العسكرية الكبيرة التي ألحقتها إسرائيل به. ويقال إن الحدود مع سوريا اليوم مليئة بـ130 معبرا غير شرعي، منها 53 معبرا بالقرب من معقل حزب الله في وادي البقاع.
ويستغل الحزب الوضع الأمني المتقلب بمواصلة إنتاج وتهريب الكبتاغون في مواقع جنوب سوريا، حيث أعلنت دمشق مؤخرا عن تفكيك عشرين خلية مخدرات (بعضها يديرها حزب الله، وبعضها الآخر فلول الأسد) وست خلايا أخرى تركز على تهريب الأسلحة. وقد أدى تزايد النشاط عبر الحدود بدوره إلى تصاعد الاشتباكات مع قوات الحكومة السورية الجديدة.
ومن المرجح أن تدفع التحديات المالية المتزايدة التي يواجهها حزب الله إلى زيادة إنتاج الكبتاغون داخل لبنان أيضا، مما يجعل نقاط التهريب السورية أكثر فائدة كطرق تصدير محتملة إذا تُركت الحدود غير مؤمنة. وفي غضون ذلك، شكّل لبنان حكومة جديدة تعد بتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بمختلف نزاعاته الحدودية.
ومن بين هذه القرارات قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1680 (2006)، الذي دعا سوريا إلى “الاستجابة” لطلب لبنان “ترسيم حدودهما المشتركة”، وإقامة “علاقات دبلوماسية كاملة”، ومعالجة المخاوف بشأن “نقل الأسلحة” إلى حزب الله والجهات الفاعلة غير الحكومية الأخرى.
وبعد حرب 2006، ركّز قرار مجلس الأمن رقم 1701 على الحدود الإسرائيلية – اللبنانية، ولكنه أعاد التأكيد أيضا على ضرورة تطبيق القرار 1680 وترسيم الحدود اللبنانية – السورية، كل ذلك لتحقيق الهدف الأوسع المتمثل في فرض سلطة الدولة على جميع الأراضي اللبنانية.
ولا تزال هذه الأحكام بالغة الأهمية اليوم، ليس فقط لمنع المزيد من الاشتباكات الحدودية مع سوريا، ولكن أيضا لأن حزب الله لا يزال يحاول إعادة بناء ترسانته وشبكاته المالية. كما يمكن لترسيم الحدود أن يساعد الحكومة الجديدة في دمشق من خلال الحد من حركة عناصر حزب الله وفلول نظام الأسد عبر الحدود المفتوحة حاليا.
وستكون عملية ترسيم الحدود شائكة للغاية، إذ تعج هذه الحدود ببلدات متداخلة وسكان مختلطين، تمتد على طول ما يقرب من 375 كيلومترا من الأراضي التي تم ترسيمها جزئيا. وحتى اليوم، لا يزال بالإمكان العثور على مجتمعات لبنانية على الأراضي السورية ومجتمعات سورية على الأراضي اللبنانية، مما يعيد إلى الأذهان أيام ما قبل ترسيم الحدود رسميا. وعلاوة على ذلك، تتداخل بعض هذه القرى، مثل وادي خالد، والطفيل، والقصير، وحوش السيد علي.
ورغم هذه التحديات، تبدو الحكومتان الجديدتان مستعدتين لمواجهة التهديدات التي يشكلها حزب الله والجماعات الموالية لإيران. كما أبدتا استعدادهما للعمل على ترسيم الحدود البحرية خلال المحادثات متعددة الأطراف الأخيرة في باريس. ويُعد وجود مظلة سعودية لمثل هذه المناقشات أمرا إيجابيا، من حيث تنسيق المزيد من المفاوضات وضمان المساءلة في حال حاول أي طرف عرقلة العملية.
مزارع شبعا و"المقاومة"
لعلّ أكبر عائق أمام نجاح محادثات الحدود هو مزارع شبعا، التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967. وهذه المنطقة، وهي شريط زراعي يمتد على طول الحدود بين سوريا ولبنان، لم تُرسم حدودها قط خلال فترة الانتداب الفرنسي.
واتبع نظام الأسد سياسة غامضة تجاه هذه المزارع لعقود، إذ كان يُصرّح علنا في الكثير من الأحيان بأنها جزء من الأراضي اللبنانية، رافضا إضفاء الطابع الرسمي على هذا الادعاء أو التنازل عنه من خلال إحالة هذه النقطة إلى الأمم المتحدة كتابيا. وفي اجتماع عام 2011 مع الدبلوماسي الأميركي فريدريك هوف، أقرّ بشار الأسد سرا بأنّ مزارع شبعا والتلال المتنازع عليها خارج كفر شوبا أراض سورية، وليست لبنانية.
◙ عملية ترسيم الحدود ستكون شائكة للغاية، إذ تعج هذه الحدود ببلدات متداخلة وسكان مختلطين تمتد على طول ما يقرب من 375 كيلومترا
ومع ذلك، فإن إخفاء مثل هذه الآراء عن أعين الجمهور منح حزب الله الذريعة المثالية لمواصلة أنشطة “المقاومة” لسنوات بعد انسحاب إسرائيل الفعلي من الأراضي اللبنانية عام 2000. وطالما أن مناطق مثل مزارع شبعا لم تكن سورية رسميا، يمكن للحزب أن يدّعي “تحرير” الأراضي اللبنانية. لكن حل نزاع شبعا اليوم قد يجرد حزب الله من هذه الرواية.
وللقيام بذلك، ستحتاج الحكومة الجديدة في دمشق إلى إبلاغ الأمم المتحدة رسميا بأن مزارع شبعا أراض سورية. وإذا لم يعارض لبنان هذا الادعاء، فسيتم حل المشكلة رسميا. وستكون هناك حاجة إلى استمرار المشاركة السعودية لضمان التزام لبنان بالاتفاقيات الدولية ومواجهة أنشطة حزب الله في منطقة شبعا.
ومع ذلك، في نهاية المطاف، فإن مراقبة هذه المنطقة وبقية الحدود اللبنانية – السورية ستتطلب نشر عشرات الآلاف من قوات الحدود المجهزة والمدربة والمؤهلة بشكل جيد، وهو شرط أساسي لا تستطيع أي من الدولتين توفيره بالكامل في الوقت الحالي نظرا للاضطرابات الأخيرة التي شهدتها. وبناء على ذلك، سوف يتعين على الولايات المتحدة وشركائها مواصلة تقديم المساعدات الكبيرة للجيش اللبناني في الوقت الراهن.
وضع العلويين
عرّضت الحدود غير المحكمة لبنان لخطر امتداد الصراع الطائفي من سوريا. ففي أعقاب سلسلة من الاشتباكات الدامية في مدنهم الساحلية، فرّ العديد من العلويين السوريين إلى لبنان، ومن المتوقع وصول المزيد مع ظهور التوترات الطائفية في منطقة دمشق. وتشير التقارير إلى فرار أكثر من 21 ألف سوري إلى هناك في شهر مارس وحده، معظمهم إلى المناطق الشمالية.
ونظرا إلى العدد الكبير من اللاجئين السوريين الذين عبروا الحدود سابقا خلال الحرب الأهلية الطويلة ولم يعودوا إلى ديارهم، فإن الاقتصاد اللبناني المنهار لا يستطيع تحمل العبء الإضافي. كما أفادت التقارير بأن فلول نظام الأسد وعناصر مسلحة أخرى عبروا الحدود أيضا، وقد يشكلون في نهاية المطاف تهديدا أمنيا، لاسيما وأنهم يقيمون الآن في مناطق سنية بحتة مثل طرابلس وعكار، مما يزيد من خطر اندلاع اشتباكات طائفية بين العلويين والسُنة.
ولعل الأهم من ذلك، أن القتال على الساحل العلوي السوري وعلى طول الحدود يعزز خطاب حزب الله لدى قاعدته الشيعية. وخلال الصراع الأخير مع إسرائيل، ازداد استياء الشيعة من قرارات حزب الله الحربية، وعدم تعويضهم عن خسائر الممتلكات، وفشله في إعادة إعمار المجتمعات الشيعية. إلا أن القتل الطائفي للعلويين في الجوار أتاح للحزب فرصة ذهبية لقلب الرواية من السخط الداخلي إلى الخوف من حكام سوريا السنة الجدد، على الرغم من التساؤلات العالقة حول الفصائل التي استفزت ونفذت المجازر.
◙ الحدود غير المحكمة عرّضت لبنان لخطر امتداد الصراع الطائفي من سوريا. فقد فرّ العديد من العلويين السوريين إلى لبنان بسبب الصراع الطائفي
وتعمل الآلة الإعلامية لحزب الله على إقناع الشيعة بأنه لا يزال الطرف الوحيد الراغب والقادر على حمايتهم، خاصة الآن بعد أن دعت الحكومة الجديدة في بيروت إلى نزع سلاحهم. ويتطلب تهدئة هذه المخاوف الشيعية تأمين الحدود، وهو أمر لا تستطيع القيام به إلا الدولة اللبنانية وقواتها الأمنية، وليس حزب الله.
وعلى الرغم من أن ترسيم حدود متفق عليها سيمثل خطوة كبيرة نحو تحسين الوضع الأمني، إلا أن السلطات الجديدة في لبنان وسوريا بحاجة إلى موارد خارجية كبيرة ومساعدة دبلوماسية لإتمام الاتفاق وتطبيق الخطوط الجديدة واحتواء تهريب حزب الله وأعمال العنف.
وبدعم من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ينبغي على المملكة العربية السعودية تسريع العملية التي بدأتها مؤخرا، والضغط على الحكومتين لحل القضايا الشائكة مثل النزاع على مزارع شبعا وتداخل الأراضي. كما يتعين التنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن 1680 و1701 و1559، والتي تُلزم جميعها سلطات الدولة بمنع الجماعات المسلحة غير الحكومية مثل حزب الله من اختراق الحدود.
ومع ذلك، في غياب قوات ومعدات ورواتب كافية، لن يتمكن الجيش اللبناني من الوفاء بهذه المهمة أو ممارسة سلطته على الحدود مع سوريا وإسرائيل.
وبناءً على ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة مواصلة دعمها للجيش اللبناني، مع توقعات واضحة بأن على هذه القوات القيام بما يلزم لتأمين الحدود حتى لو تطلب ذلك مواجهة حزب الله. وسيكون الدعم الدولي لمبادرات حدودية أكثر صرامة مفيدا أيضا، على غرار ما قدمته المملكة المتحدة للجيش اللبناني عام 2018.
كما أن ترسيم الحدود مع سوريا سيعزز محادثات الحدود المقبلة بين لبنان وإسرائيل. وبعبارة أخرى، لا يمكن تأمين حدود إسرائيل مع لبنان بشكل كامل حتى تُؤمّن بيروت حدودها مع سوريا.