لبنان يتجه إلى الشيخوخة وسط تغييرات ديموغرافية

وكالة أنباء حضرموت

 سجل لبنان في السنوات الأخيرة تحولات ديموغرافية كبيرة، حيث لوحظ تراجع ملموس في معدل النمو السكاني، بحسب دراسة حديثة خلصت إلى أن البلد يتجه نحو الشيخوخة، وهو ما يُشكل ظاهرة خطيرة على المجتمع.

وأظهرت الأرقام الصادرة عن المديرية العامة للأحوال الشخصية في وزارة الداخلية من 2020 إلى 2023، والتي درستها الدولية للمعلومات مقارنة بأرقام 2016- 2019، تراجع النمو السكاني بنسبة تقارب 40 في المئة، من معدل زيادة سنوي بلغ 63.523 إلى 38.203 فرداً.

وعلّق مدير مركز الدولية للمعلومات في لبنان جواد عدرا، على الدراسة في منشور على حسابه الخاص على منصة إكس، تحت عنوان “مجتمع يشيخ”. واعتبر أن “الموضوع خطير ولا يجوز التركيز على الطائفية، بل على أننا مجتمع يشيخ”.

وفي تصريح إلى موقع “ليبانون ديبايت” المحلي، أشار عدرا إلى وجود عدة أسباب تقف خلف هذا التراجع في النمو السكاني، ومن أبرزها تراجع في نسبة المواليد بسبب الأزمة المالية.

ورأى أن كل هذه الأمور أسباباً وجيهة لشيخوخة المجتمع اللبناني إلّا أنها برأيه ليست الأساس، بل هناك أسباب رئيسية أخرى ليصل المجتمع اللبناني إلى الشيخوخة، وترتبط حتماً بنمط حياة اللبنانيين.

بالمئة نسبة تراجع النمو السكاني ما يعكس التأثيرات العميقة على التركيبة الديموغرافية للبلاد

وأوضح أن السبب الاقتصادي أساسي لناحية انخفاض عدد الزواجات مقابل ارتفاع حالات الطلاق، ولا يمكن إغفال ما تتسبّب به الهجرة من تراجع في الزواج والمواليد.

ويؤكد الواقع الحالي أن البنية السكانية في لبنان مهددة بالمزيد من التغييرات مع تراجع عدد الولادات وانخفاض متوسط عدد أفراد الأسرة اللبنانية مع تراجع ملحوظ في عدد الصغار في السن، لكن يخشى بعض اللبنانيين ألا تعكس الأرقام حقيقة الوضع بوجود التباينات المناطقية الشاسعة على الرغم من صغر مساحة لبنان، ففي سبعة أقضية في لبنان، يظهر أن المستوى العام للخصوبة دون الخط الأحمر في المناطق ذات الأغلبية المسيحية بشكل خاص.

في المقابل، يزيد مستوى التكاثر السكاني في عكار والمنية الضنية في شمال لبنان حيث ترتفع نسب المجنسين وبشكل عام، النمو السكاني غير موجود إلا في مناطق محدودة في لبنان، فيما هو في غاية البطء في مناطق أخرى.

وأظهرت مراجعة لأعداد الولادات والوفيات في عام 2023 حسب الأقضية، أن الزيادة السكانية كانت طفيفة أو شبه معدومة في المدن.

أما في المناطق الزراعية، وخاصة في المناطق ذات الأغلبية الإسلامية مثل بعض المناطق في الشمال مثل عكار، وصور وضواحيها جنوبًا، فقد سُجلت معدلات نمو سكاني أعلى.

والأهم من ذلك، أن المراجعة كشفت أن المجتمع اللبناني يتجه نحو الشيخوخة، ما يثير تساؤلات حول المستقبل الديموغرافي للبلاد وتأثيراته المحتملة على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.

التصنيف الطائفي في التعامل مع السكان يعتبر السبب الرئيسي وراء عدم إجراء أي تعداد رسمي للسكان منذ عام 1932

ووفقا للأرقام، فقد شهد لبنان بين عامي 2016 و2019 ولادة 354.866 شخصًا مقابل 100.771 حالة وفاة، ما أدى إلى زيادة سكانية قدرها 254.095 شخصًا، بمتوسط سنوي بلغ 63.523 شخصًا.

لكن هذه الأرقام تغيرت بشكل كبير بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد، حيث انخفض عدد الولادات في الفترة من 2020 إلى 2023 إلى 271.913 شخصًا، بينما ارتفع عدد الوفيات إلى 119.101 حالة، ما أسفر عن زيادة سكانية قدرها 152.812 شخصًا فقط، بمتوسط سنوي بلغ 38.203 شخصًا.

ويتبين عند مقارنة هذه الفترات٬ أن النمو السكاني في لبنان انخفض بنسبة 39.8 بالمئة بعد الأزمة، ما يعكس تأثيراتها العميقة على التركيبة الديموغرافية للبلاد.

وتزامن هذا الانخفاض في معدل الولادات مع ارتفاع في عدد الوفيات بنسبة تقارب الـ20 بالمئة بين عامي 2020 و2021، حيث شهد عام 2021 زيادة ملحوظة في عدد الوفيات مقارنة بالعام الذي سبقه.

ووفقًا للأرقام٬ فقد شهد قضاء المتن أدنى زيادة سكانية بين اللبنانيين في عام 2023، حيث تم تسجيل 1.431 ولادة مقابل 1.420 حالة وفاة، ما أدى إلى زيادة سكانية صافية قدرها 11 فردًا فقط.

تصنيفات طائفية
أما قضاء كسروان فقد احتل المرتبة الثانية، حيث سُجّلت 941 ولادة مقابل 872 حالة وفاة، ما أسفر عن زيادة صافية قدرها 69 فردًا.

وجاء قضاء بشري في المرتبة الثالثة، حيث بلغ عدد الولادات 397 حالة مقابل 310 حالات وفاة، ما أدى إلى زيادة سكانية صافية قدرها 87 فردًا.

ويرجع تراجع النمو السكاني أيضًا إلى ظاهرة الهجرة المتزايدة. فقد كان عدد المهاجرين حوالي 25 ألفًا سنويًا بين عامي 1996 و2016، لكنه ارتفع إلى 78 ألفًا سنويًا منذ عام 2018.

وتشكل هذه الأرقام تهديدًا كبيرًا للتركيبة السكانية في البلاد، خاصةً مع ارتفاع نسبة المغادرين من الفئات الشابة والمهنية ذات المستويات التعليمية العالية.

وتمثل الديموغرافيا اللبنانية تحديًا معقدًا يتجاوز مجرد الأرقام والإحصاءات. ففي الدولة مختلفة المذاهب والطوائف يتم تصنيف اللبنانيين بناءً على انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، بدلاً من التركيز على هويتهم الوطنية كمواطنين لبنانيين أولاً.

ويعتبر التصنيف الطائفي في التعامل مع السكان السبب الرئيسي وراء عدم إجراء أي تعداد رسمي للسكان منذ عام 1932.

وتخشى العديد من الأطراف السياسية اللبنانية من أن الكشف عن الحقائق الديموغرافية قد يؤدي إلى تغيير التوازنات الطائفية القائمة، رغم الاتفاق على مبدأ المناصفة في المناصب السياسية والإدارية العليا، بغض النظر عن التوزيع العددي للطوائف.

السبب الاقتصادي أساسي في شيخوخة المجتمع لناحية انخفاض عدد الزواجات مقابل ارتفاع حالات الطلاق، إضافة إلى الهجرة وتراجع عدد المواليد

وعلى الرغم من غياب التعداد الرسمي، فإن الحقائق الديموغرافية تبقى متداولة بطرق غير رسمية، مثل أعداد طلاب المدارس أو الناخبين، إلا أنها تظل غير دقيقة تمامًا.

وتشير التقارير إلى وجود أخطاء في هذه الأرقام، منها القيود المكررة للزوجات أو أسماء المتوفين التي لم تُشطب من السجلات.

وينتج الضعف الأساسي في البنية السكانية عن التعطيل والصراعات السياسية والفراغ، في ظل الأزمة الاقتصادية والانهيار الحاصل وحال الإفقار والتجويع التي أدت إلى هجرة الشباب، وبحسب تصنيفات شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة، أتى لبنان في المرتبة الأولى بين الدول في تناقص عدد السكان.

وأظهر مسح أجري في عام 1996 أن عدد سكان لبنان هو ثلاثة ملايين و126 ألف نسمة، بينما أظهر مسح عام 2019 أن العدد بلغ أربعة ملايين و800 ألف نسمة بنسبة 20 في المئة من غير اللبنانيين.

أما حالياً فتشير التقديرات إلى أن عدد السكان يقارب ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وعلى الرغم من غياب إحصاءات دقيقة تؤكد عدد المقيمين الفعلي على الأراضي اللبنانية، في ظل الهجرة وتناقص عدد السكان، يقدر الدكتور في العلوم الجغرافية والباحث في شؤون السكان علي فاعور عدد المقيمين في لبنان بنحو ثمانية ملايين نسمة، مشيراً إلى أن لبنان يعد الدولة العربية الأولى التي أكملت مرحلة التحول الديموغرافي مع دخوله في مرحلة شيخوخة السكان في ظل هذه التحولات الديموغرافية الكبرى الحاصلة.

وترى فئة من اللبنانيين أن خطورة الوضع في لبنان اليوم تكمن في أن الهرم السكاني الذي عادة ما تكون قاعدته من الصغار في السن مقلوب، إذ يشكل المسنون نسبة كبرى من سكانه، فيما تهدد الهجرة بالأسوأ في الأيام المقبلة، وقد خسر لبنان بالفعل من عام 2019 نسبة 10 في المئة من سكانه، والهجرة اليوم أكثر خطورة مع تناقص عدد السكان ووجود الهيئات التي ترعى غير اللبنانيين حتى باتوا يشكلون نصف عدد سكان لبنان، مع ارتفاع معدلات الولادات بينهم، ومن المتوقع أن يتخطى عددهم عدد اللبنانيين في السنوات المقبلة على الأراضي اللبنانية.

آثار كارثية
من جانبها ترجع الأستاذة الجامعية والباحثة الاجتماعية وديعة الأميوني، التراجع في النمو السكاني في لبنان إلى مجموعة من العوامل، منها التغيرات في نمط الحياة، وتأخر سن الزواج، والاتجاه نحو الأسرة النواتية الصغيرة، بالإضافة إلى هجرة الشباب إلى الخارج بحثا عن فرص عمل أو تعليم، أو هربا من الظروف السياسية والأمنية الصعبة في البلاد.

وتقول الأميوني في تصريحات لموقع “الحرة” أن هذا الانخفاض في النمو السكاني يؤثر بشكل كبير على قوة العمل، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية المحلية ويزيد من الضغط على النظامين الاجتماعي والاقتصادي، موضحة أن “ارتفاع نسبة كبار السن يضيف ضغوطا إضافية على نظم الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية”.

وتمَّثل النمو الطبيعي للسكان في الفرق بين الولادات والوفيات، وشهد تراجعا ملحوظا نتيجة لانخفاض الولادات وارتفاع الوفيات. إضافة إلى ذلك سجّلت البلاد بين 75 ألف و100 ألف حالة هجرة وسفر كمعدل سنوي منذ عام 2020 حتى اليوم، مع ترجيحات بأن يكون النمو السكاني 0 بالمئة، مما يؤدي إلى تحول المجتمع اللبناني إلى مجتمع معمّر يعاني من الشيخوخة.

ويعتبر لبنان الأول بين الدولة العربية من حيث نسبة المسنين الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما، حيث تجاوزت هذه النسبة 15 في المئة.

وكان تقرير “التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية – اتجاهات 2024” الصادر عن منظمة العمل الدولية في مارس من هذا العام، كشف عن تدهور مقلق في سوق العمل في لبنان، حيث أشار إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات البطالة بين الشباب، والتي بلغت ذروتها عند 47.8 في المئة في عام 2022.

كما أوضح التقرير أن نسبة الشباب اللبنانيين الذين هم خارج إطار العمل والتعليم والتدريب وصلت إلى 26.1 في المئة، وفيما يتعلق بالبطالة طويلة الأمد، أشار التقرير إلى أن نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل في لبنان يعانون منها، حيث وصلت النسبة إلى 48.9 في المئة.

ويشدد الخبراء على الآثار الكارثية لتراجع أعداد الشباب في البلاد، فهذه الفئة تمثل العمود الفقري لقوة العمل ومحركا أساسيا للنمو الديموغرافي والتنمية الاقتصادية، وهذا التراجع يؤدي إلى تآكل الخبرات والمهارات التي تعتمد عليها عجلة الإنتاج، مما ينعكس سلبا على كافة القطاعات.