مي فاروق: لن أكتفي بأداء كلاسيكيات الموسيقى العربية

وكالة أنباء حضرموت

بصوتها العذب القوي والحنون، وبقدرتها على أداء الأغنيات الطربية الكلاسيكية في حفلات مباشرة أشبه بكونها حفلات داخل أستوديوهات التسجيل وتخضع لمؤثرات صوتية وتقنية تزيد من جمال صوتها، عادت المطربة المصرية مي فاروق إلى تونس بعد غياب عشرين عاما، لتقدم حفلا لها بمهرجان دقة الدولي.

عادت مي، أكثر نضجا فنيا، واضحة الاختيارات وبمشروع فني تبينت أغلب ملامحه طوال العقدين الماضيين. عادت بعد أن منحتها موهبتها وقدرتها على تقديم أغاني عمالقة الموسيقى العربية الكلاسيكية شهرة لم تكن لتحصل عليها بسهولة، في واقع فني تتحكم فيه ماكينات تجارية لا تولي اهتماما كبيرا بالمواهب الجادة.

عرفت مي في البداية عربيا بأغنية “يا شمس يا منورة غيبي” التي أدتها في المسلسل الشهير “الليل وآخره” للنجم يحيى الفخراني، ثم غابت قليلا لتعود خلال السنوات القليلة الماضية، بأدائها المميز لأغاني العندليب وكوكب الشرق وغيرهما من نجوم الزمن الجميل، أداء جعلها حديث مواقع التواصل الاجتماعي، ثم أهّلها لتكون نجمة حفلات عربية لسهرات تدور كلها في فلك أغنيات عمالقة الأغنية العربية والمصرية تحديدا. ورغم أن عشرات المطربين قبل ظهورها، خلاله وبعده أيضا، انتهجوا الطريق نفسه في إعادة هذه الأغاني إلا أن مي فاروق لاقت نجاحا أوسع وتقبلها الجمهور الذي اعتاد رفض كل من يحصر نفسه في هذه الخانة ويشتهر بـ “ريبرتوار” (مخزون) غيره من الفنانين الراحلين.

النجاح الذي تحصده الفنانة مي فاروق لم يأت بسهولة بل جاء بعد سنوات من التعلم والتدريب والغياب والعودة والتضحية

جاءت مي إلى تونس حاملة معها بعضا من أرواح نجاة الصغيرة وأم كلثوم ووردة الجزائرية وذكرى محمد اختلطت ببعض من روحها الخاصة، لتطرب الآذان بأغنيات وألحان يحبها الكثيرون ممن يؤمنون بأهمية الموسيقى العربية الكلاسيكية، وبضرورة دعم كل المواهب المصرة على استعادة مجدها. وسافرت مع الجمهور في رحلة بين “في يوم وليلة” و”أغدا ألقاك” و”عيون القلب” و”وحياتي عندك” و”بعيد عنك” و”اسأل روحك”، وأغنتيها الخاصتين “أفتكرلك إيه” و”يا شمس يا منورة غيبي”، في مزيج طربي بين القديم والحديث زاد من جماليته القدرات الجيدة للعازفين التونسيين الذين رافقوها في حفلها بقيادة المايسترو محمد الأسود.

وهي بهذا الحفل تؤسس لانطلاقة من تونس نحو مهرجاناتها الكبرى، ولمَ لا نحو خطوات أكبر، إذ أكدت أنها ترغب في الاشتغال على أغنيات دويتو مع أهم مطربي تونس ممن يشبهونها في نمطها الغنائي ومنهم محمد الجبالي وصابر الرباعي.

وعبّرت الفنانة في تصريح لـ”العرب” عن سعادتها وانبهارها بجمال الحفل والجمهور التونسي الذي جعلها “تتسلطن” وتستمتع بـ”الغناء معه”، لكنها أكدت أيضا فرحها بأداء الجمهور لأغنياتها الخاصة.

وأكدت المطربة المصرية لـ”العرب” أنها لن تكتفي مستقبلا بأداء كلاسيكيات الموسيقى العربية، بل هي تسير بخطوات ثابتة نحو إنتاج أغنيات خاصة بها، تتبع المدرسة الفنية ذاتها وتلتزم فيها بأسلوبها الطربي الذي عرفها الجمهور به.

وقد بدأت المطربة بالفعل في هذه الخطوة منذ العام الماضي حيث تعاونت مع الملحن عمرو مصطفى في أغنية بعنوان “أفتكرلك إيه”، أغنية بمجرد سماعها تعيد إلى الأذهان أغنيات مطربات الزمن الجميل. وهي أغنية تندرج ضمن مشروع الملحن مصطفى لـ”إحياء التراث”، ويهدف من خلاله إلى الحفاظ على الهوية المصرية والعربية والارتقاء بالذوق العام.

وأشارت المطربة لـ”العرب” أنها ستعمل مستقبلا على أداء أغنيات شارات المسلسلات والأغنيات التي أدتها ضمن الموسيقى التصويرية للعديد من المسلسلات المصرية في حفلات. وقدمت مي أغاني في مسلسلات عديدة مثل مسلسل “ضرب نار” و”السبع بنات”.

وإلى جانب جمالية صوتها، أثبتت مي فاروق في حفلها بمهرجان دقة الدولي أنها من الفنانين القلائل الذين يمتلكون قدرات جيدة في التواصل والخطابة، حيث أبدت اختيارا دقيقا لألفاظها وتصريحاتها، دون تملق أو رمي للورود والمجاملات التي اعتاد عليها الجمهور التونسي من فنانين آخرين حتى صار يتهكم عليهم بعبارة “تونس بلدي التاني”.

لم يأت هذا النجاح الذي تحصده مي فاروق، بسهولة، بل هو نجاح جاء بعد سنوات من التعلم والتدريب والغياب والعودة والتضحية، نجاح تعرف جيدا أنه سيكون سلاحا ذا حدين ضدها، فهي وإن لم تحقق أغانيها الخاصة شهرة وانتشارا قد تجد نفسها في خانة الفنانات “المستفيدات” من شقاء وتعب مطربات الزمن الجميل اللواتي تحدين مجتمعاتهن واجتهدن رغم قلة الموارد والظروف الداعمة لصناعة أسماء وشهرة لا تموت.

وليست مي فاروق الأولى ممن شهرهن أداؤهن للأغنيات الطربية، فقبلها بدأت الكثير من النجمات بهذا المسار ثم انحرفن عنه، كذلك العديد من المطربين العرب أمثال جورج وسوف ووائل جسار ومدحت صالح وصابر الرباعي. وجمهور المغرب العربي مثلا يعرف جيدا المطربة شيماء الشايب، التي كانت في سنوات ماضية عنوان الطرب ورمزا له رغم أنها تعيد أغاني الراحلين، ورغم ذلك حين أرادت الخروج من جلباب الزمن الجميل لم تجد لنفسها موطئ قدم في الساحة الفنية.

نحن هنا لسنا بصدد إحداث مقارنات بين نجمتين، بل نريد أن نقول إن النجاح الشخصي بعد تحقيق نجاح بمخزون الموسيقى العربية قد يكون أمرا صعبا جدا ويتطلب من الفنان إستراتيجية واضحة وماكينة متكاملة تتعامل مع اسمه كصورة كاملة ومشروع فني وليس كمؤد يعيش من مهنة الفن.

“وراء كل نجاح حققته، كنت أتذكر دائما شخصا واحد هو صاحب الفضل فيه. هذا الشخص هو أبي!”، هكذا كانت تردد أم كلثوم دائما، وهكذا تقول مي فاروق التي تخلد ذكراها بإقامة حفلات أغلبها تؤدي فيها أغنيات لكوكب الشرق، فمي تشدد دوما على امتنانها لوالدها الراحل الذي كان صاحب صوت قوي وجميل وكان أول من اكتشف جمال صوتها ودعمها في دخول عالم الفن، فأصبحت منذ سن الثماني سنوات واحدة من فنانات الأوبرا المصرية، حتى استقالت منها لرفضها أن تتحول إلى مجرد موظف إداري واختيارها التركيز بشكل ذاتي على موهبتها.

واليوم من يقول مي فاروق يقول في البداية “أم كلثوم” فهي معروفة أكثر بإعادة أغنياتها، في انتظار أن ترسم في السنوات المقبلة صورة خاصة لها تميزها عن الأولين والحاضرين وتجعلها اسما ذا هوية مميزة.

يوما ما قالت أم كلثوم للصحافي والكاتب المصري محمود عوض، ضمن بعض من سيرتها التي تناولها في كتابه “أم كلثوم التي لا يعرفها أحد”، “ليس مهما أن أكون مطربة من الدرجة الثالثة، المهم ألا أبقى في الدرجة الثالثة”، وعلى هذا المنوال، تحتاج مي فاروق أن تدرك أنه ليس مهما أن تشتهر بأغنيات الزمن الجميل لكن المهم ألاّ تبقى حبيسة إنتاج الراحلين.

ويقول محمود عوض في مقدمة كتابه الممتع عن أم كلثوم “إنها غنت كما لم يغن أحد، فاستمع إليها الجمهور كما لم يستمع لأحد… إنها باختصار غنت وأحبت فاستمرت.. في سنوات لا يستمر فيها أحد”.

وهذا القول أرى أنه ينطبق على مي فاروق، التي تغني اليوم كما لم يغن أحد ويستمع إليها الجمهور كما لم يستمع لأحد، ويتقبل إعادتها لأغاني الزمن الجميل بسهولة وبساطة، وحتى اختياراتها لإنتاجها الفني الشخصي تظهر اتجاهها نحو الطرب ونحو اختيار الكلمة واللحن اللذين يرتقيان بمستوى الموسيقى العربية، في زمن تقول فيه الأغلبية إن الموسيقى العربية تسير نحو الانحدار.

إنها تكرر ما آمنت به أم كلثوم يوما، حين نزلت من قريتها الريفية إلى القاهرة، لتحترف الفن، وبدل أن يقهرها الانحدار الفني المنتشر في مصر في سنوات العشرينات من القرن الماضي، قررت هي أن تقهره وتؤسس مدرسة فنية خاصة بها، منحتها بعد جهد جهيد مكانة لا تكرر، مكانة منحت اسمها الخلود.