التركيز على الأفكار الاجتماعية لا يخلو من السياسة في السينما المصرية.

الحد الفاصل بين الكذب والحقيقة في فيلم "برا المنهج"

القاهرة

قبل أن ينصرف العام الماضي عرضت دور السينما المصرية فيلم “برّا المنهج” ويعالج قضية اجتماعية هامشية لدى البعض، غير أنها تتناول قضية عميقة ولا تخلو من إسقاطات سياسية في بعض مشاهدها ومفرداتها.

وحاول كاتب قصة الفيلم ومخرجه عمرو سلامة تمرير إسقاطاته بسلاسة في قالب كوميدي أحيانا وتراجيدي غالبا من خلال طفل يبلغ من العمر 13 عاما اسمه نور وجسّده عمر شريف لا يتورع عن الكذب كي يعوض أوجه النقص الاجتماعي التي يعاني منها، حيث ينتمي إلى أسرة فقيرة ولا يرى الأشياء جيدا من حوله، فأطلق زملاءه عليه في المدرسة (عماشة) وهو وصف شائع في مصر لذوي النظر الضعيف.

وتبدأ قصة الفيلم من مقدمة بصوت البطل ماجد الكدواني يلخص فيها حياة الطفل نور الذكي، ويركز على الإشارة إلى عدم ربطها بزمان أو مكان محددين، وهي العبارة اللغز التي تجعل المشاهدين يفكرون في تأويلات عدة، لأن الكدواني يقوم بدور شخص اسمه أحمد وحيد يعيش في قصر مهجور أمام المدرسة التي يتعلم فيها نور.

ويتنكر وحيد في صورة شبح يخيف الناس كي يبتعدوا عن القصر المهجور لمداراة عقدة خفية، وجرى نسج العديد من القصص الخيالية عما يسببه من متاعب لكل من يقتربون منه دون أن يراه أحد، حيث يرتدي ملابس مخيفة ولا يظهر وجهه، ما ساعد الناس على الترويج لشائعات وخرافات حول قدرته في الإيذاء، والمنع أو العطاء.

استغرق المخرج عمرو سلامة الذي يجيد العزف على الأفكار غير النمطية في أعماله نحو نصف ساعة ليبدأ في تسريب أو دحرجة حكاية الشبح أو أحمد وحيد في الأحداث، والذي احتضن الطفل نور عندما بدأ يتردد على القصر المهجور ليبثبت لزملائه في المدرسة أنه شجاع وقوي ليوقفوا التهكم المستمر على شكله ونظارته الطبية وملابسه.

وبدت الدروس التي يقدمها العمل الذي كتب السيناريو والحوار له عمرو سلامة مع خالد دياب متعددة، فالخط الرئيس أن الكذب لا نهاية له، ويجب أن يتوقف عنه الطفل، وعلى ذلك ظهرت الكثير من المشاهد التي تؤكد أن الخيال المصحوب بالكذب جزء من تفكير نور بصورة مبالغ فيها، وكأن رسالة الفيلم وقف سلسلة الكذب اللامتناهية.

وعندما تمكن الطفل من وقف تهكم مدرسيه وزملائه في المدرسة بعد أن أصبحت علاقته قوية بالشبح واستحوذ على عناصر التفوق، بدأ نور ينزلق إلى منحدر الابتزاز مع من حوله ويوهمهم أنه صاحب مواهب اكتسبها من علاقته بالشخص المجهول الذي يقيم في القصر، وهو ما مكنه من فرض كلمته عليهم.

البطل الحقيقي في الفيلم هو الطفل عمر شريف، ويحسب للمخرج عمرو سلامة أنه أجاد اختيار هذا النموذج ليقوم بهذا الدور، فالطفل كان مقنعا في تشخيصه ويتمتع بموهبة لا أحد يستطيع القطع بأنها يمكن أن تستمر معه عندما يكبر، فهناك أطفال كثيرون ينصرفون عن التمثيل أو تنحصر موهبتهم في المرحلة العمرية المبكرة.

تعامل الصغير عمر شريف مع الكاميرا بما يوحي أنه تدرب كثيرا على الوقوف أمامها، ما جعل الكدواني المعروف بسلاسته في التمثيل يبدو ندا للطفل وليس العكس، فالمباراة الفنية تحولت من أسفل إلى أعلى، بمعنى أن التركيز كان ينصب على سلوك الطفل ثم توقع رد فعل الشبح عليه الذي كشف عن شخصيته الحقيقية لنور.

وهناك سقطات فنية وقع فيها مخرج الفيلم من قبيل الغموض في تفسير الفترة التي عاشها الشبح أو أحمد وحيد في القصر المهجور، وكيف عاش سنوات طويلة دون معرفة حقيقته، ومن أين يتناول طعامه خلال السنوات التي قضاها في هذا المكان؟

ولم تلغ الأسئلة الكثيرة التي تراود المشاهد أن المخرج حاول الإجابة على بعضها بطريقة مكثفة عندما علم نور قصة أحمد وحيد التي أصر على معرفتها بعد مراوغات من الشبح ومحاولات مختلفة للهروب منها، وحملت قدرا من الافتعال والرغبة في عدم الرجوع إلى الحقيقة لأنها تحمل ألما نفسيا كبيرا.

ومن هنا قفز الفيلم باتجاه السياسة متخليا عن فكرة الحذر والحقيقة والكذب ودروس التاريخ التي كان يقدمها أحمد وحيد للطفل، حيث كان الرجل يعمل مذيعا في الإذاعة المصرية وأول من التفت إلى ذلك مدرسة الموسيقى في مدرسة نور التي قامت بدورها الفنانة روبي ولم تستغرق في سرد التفاصيل.

وحانت لحظة الحقيقة من خلال ظهور عناوين لجريدة مصرية تشير إلى انتصارات مصر في حرب يونيو 1967 أمام إسرائيل، وهي الدعاية التي استخدمتها إذاعة صوت العرب التي قلبت النكسة إلى انتصار، وعلى الفور يطرأ الربط بين شخصية أحمد وحيد والإذاعي المصري الراحل أحمد سعيد الذي قلب الكذب إلى حقيقة في هذه الحرب عندما كان مذيعا في صوت العرب وتحدث عن نجاح الجيش المصري في إسقاط المئات من طائرات إسرائيل وتدمير العديد من دباباتها.

وأراد وحيد التخفي لعدم قدرته على مواجهة الناس وشعوره بخداعه لهم، وربما تكون الطريقة التي استخدمها تنطوي على مبالغة كبيرة، غير أن السياق العام المتداخل الذي ظهرت فيه حاول تبريرها في اللحظة التي ذهب فيها نور ومدرسة الموسيقى إلى ابنته وقامت بدورها الفنانة أسماء أبواليزيد التي تعاملت مع الأمر بطريقة تتسم بالبرود العاطفي، مع أنها تفتقد والدها منذ سنوات.

تشابكت خيوط الفيلم وتقطعت وابتعدت مع إقدام وإحجام أحمد وحيد على لقاء ابنته، وتحوله من ضحية إلى جانِِ، حيث كان ينصح نور بعدم الكذب وهو يرتكبه، ويطالبه بالمواجهة والجرأة وهو يخشاهما، وينصحه بعدم التنكر من الواقع وهو ينكره ويذهب إلى تقمص شخصية وهمية مخادعة.

وعنوان الفيلم “برا المنهج” له علاقة بالواقع التعليمي في مصر، حيث يتساءل الطلاب دائما عند تقييم الامتحانات من داخل المقرر (المنهج) أم من خارجه، وجرى استخدام هذه المسألة في الكشف عن تزييف بعض الحقائق التاريخية، وسرد الفيلم نماذج من تلك التي ينخدع بها المصريون، ويملكون بشأنها تصورات بعيدة عن الواقع، لأن المناهج الدراسية تعاملت معها بطريقة تتسم بالخفة.

واستخدم عمرو سلامة في توصيل هذه الفكرة نوعا خاصا من الفانتازيا الفنية التي جاءت في معظمها ساذجة، فعندما تحدث عن الموقف من الفرعون أخناتون ارتدى الطفل نور ملابس فرعونية وتقمص شخصيته ومعه الكدواني ملقنا، وعندما تناول قصة محمد علي باشا والسيد عمر مكرم الذي اختار محمد علي ليكون حاكما لمصر تكررت القصة نفسها، هكذا في حكاية صلاح الدين الأيوبي والأميرة فيرجينيا التي أظهرت أن السينما قدمت عملا منافيا للتاريخ.

وقد يكون الفيلم الذي استعان بضيوف شرف مثل الفنانين أحمد أمين ودنيا ماهر وأحمد خالد صالح وحاول تقريب وتوضيح الصورة للمشاهدين ببعض المفاجآت، إلا أن هذه الطريقة كادت تبعد الجمهور عن متابعة الحكاية الأصلية التي بدت في الجزء الأخير مفككة وتائهة، وحاول المخرج تشبيك الخيوط وإعادة تركيبها بشكل أوحى بوجود صعوبة في العودة إلى القصة الحقيقية، وظهر اختفاء نور قبيل النهاية غير مبرر، ومصير أحمد وحيد مجهولا، ومعرفة الناس بحقيقة الشبح تائهة، وعملية هدم القصر غامضة.

ولا يلغي ما شعر به البعض من النقاد بأن الفيلم تطرق إلى قصة جمعت بين زوايا اجتماعية مختلفة كانت السياسة فيها حاضرة على استحياء، أن صاحب القصة ومخرجها خشي الوقوع في بعض المحظورات وضمان عرض فيلمه في أمان، فلجأ إلى التحايل والتدثر بعدد من الوقائع الصحيحة ليلمح إلى أن التاريخ لن يرحم أحدا ومهما حاول البعض تزييفه سوف يأتي من يكشفون الحقيقة يوما ما.

وأبدع مدير التصوير أحمد بشاري شيكو في تقديم مشاهد قصر الشبح والزراعات في القرية التي يعيش فيها نور، وأجاد توظيف المكان ليوحي بأنه مهجور، ولم تبخل المنتجة شاهيناز العقاد في توفير الدعم السخي للفيلم ليخرج بطريقة جيدة، ويعد خطوة مهمة في مسيرة المخرج عمرو سلامة الذي اعتاد دخول الكثير من المناطق الفنية الشائكة، ويطرق أبوابا تثير تساؤلات في جرأتها والأفكار الاجتماعية التي تحملها.