هاني سالم مسهور
كيف تجاوز الإماراتيون الاختبار الأول بمجلس الأمن
بلا شك أن الأزمة الروسية – الأوكرانية هي الأزمة الأثقل منذ نهاية الحرب الباردة في تسعينات القرن الماضي، أزمة تضع العالم أمام استقطابات حادة تتطلب الاستناد إلى كثير من الحكمة، فالموقف على الأرض الأوكرانية وصل إلى الهاوية. الحرب وقعت وهذا هو المسار الأكثر خطورة، ففي حرب كهذه ترتفع حدة الاستقطاب السياسي بين الأطراف المتنازعة وهي الأطراف الأقوى سياسيا واقتصاديا وعسكريا في العالم.
تقدمت الولايات المتحدة بمشروع قرار استنكار لمجلس الأمن الدولي حول العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وكان على دولة الإمارات العربية المتحدة، ممثلة قارة آسيا والعرب في مجلس الأمن، في هذا الموقف الدولي بكل ما فيه من ترقب أن تستدعي موروثها السياسي وتوسع نظرتها لتتخذ القرار الملائم في الاختبار الأول لها على طاولة مجلس الأمن الدولي. وهو اختبار يعتبره البعض عسيرا لحساسية الموقف الدولي ولعلاقات دولة الإمارات بالعواصم المتنازعة.
تقدير الموقف من جوانبه السياسية يعتمد على الواقعية السياسية الإماراتية كنهج تلتزم به في تقييم مواقفها. فالواقعية وحدها مكنت الإمارات من لعب أدوار سياسية متقدمة في منطقة اعتادت على الصراعات والأزمات والاستقطابات الحادة. القرار الإماراتي في التصويت الأول لها بمجلس الأمن الدولي كان بالامتناع، لتتمكن الدبلوماسية الإماراتية من لعب الدور السياسي في تقريب وجهات النظر بين موسكو والعواصم المتخاصمة معها.
تقدير الموقف الإماراتي كان صائبا، فاستمرارية الاتصالات بين موسكو وأبوظبي تمثل الفرصة السياسية الممكنة لاحتواء الأزمة مهما كانت صعبة. توالي اتصالات وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف مع وزير خارجية الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد يظل مسارا يمكن البناء عليه والدخول من خلاله في عملية سياسية دقيقة لمعالجة أزمة معقدة للغاية. وما يشجع على ذلك مؤشرات الموافقة على التفاوض بين موسكو وكييف، مع تعثر انعقاد المفاوضات المقترحة سواء أكانت في تركيا أو غيرها، لكنها ستظل فرصة يجب التمسك بها.
القراءة الموضوعية حددت طبيعة الموقف الإماراتي في مجلس الأمن الدولي، فمن المهم استمرار التواصل مع جميع الأطراف، والعمل على خفض التصعيد في أوكرانيا، وإطلاق عملية مساعدات إنسانية تخفف من وطأة هذه الحرب، مع العمل على استعادة الهدوء السياسي الناتج عن (اتفاقية مينسك 2014) كأقل ما هو ممكن، ثم العمل على توسيع ذلك الاتفاق والحصول على حلول مستدامة لمخلفات الحرب الباردة الأولى.
تصدّر أوكرانيا وروسيا 23 في المئة من صادرات القمح العالمية، وتقترب أسعار المواد الغذائية العالمية بالفعل من أعلى مستوياتها في عشر سنوات، وتعني حصة البلدين في السوق أن أي اضطراب في الصادرات قد يتسبب في ارتفاع أسعار الحبوب، هذه زاوية مهمة قد لا ينظر لها البعض مع طلقات مدافع الدبابات، فالعالم اليوم بات بعد جائحة كورونا وما تسببت فيه من معضلات اقتصادية غارقا من التضخم والكساد.
المزيد من التداعيات السلبية ستؤدي حتما إلى زيادة عدم الاستقرار في العالم ومن ضمنه منطقة الشرق الأوسط. هنا تبدو مسؤولية دولة الإمارات وعملها على تقليل تداعيات الأزمة الروسية – الأوكرانية إلى حدها الأدنى في المنطقة أمرا في غاية الأهمية، وقراءة ما يمكن أن ينتج عن هذا الصراع تحتاج لدبلوماسية حصيفة تجيد تدوير الزوايا وتعرف كيف توسع الدوائر السياسية بما يكفل تحقيق أعلى معايير المصلحة للإمارات وللمنطقة وللعالم.
الدبلوماسيون الإماراتيون لديهم رصيد كبير من المصداقية، ولهم علاقاتهم الوثيقة مع الأطراف الفاعلة، فالمصداقية والثقة في الدبلوماسية هما مفاتيح لفتح الأبواب الموصدة، ولعل الاتفاق الإبراهيمي دليل على ذلك. المهمة ليست سهلة، ولكنها ممكنة في حال نجحت المساعي الأخرى للاحتواء والانتقال لعملية تسوية سياسية تكفل الهدوء والاستقرار، ليتواصل استمرار تدفق الغذاء للعالم، فالبطون الخاوية لن يمكنها احتمال حرب باردة طويلة الأمد.
قرار الإمارات حافظ على علاقاتها المتوازنة وترك لها فرصة الحركة السياسية مع كل العواصم، سواء المنخرطة في الصراع أو تلك الراغبة في لعب دور التهدئة ووقف نزيف الحرب. والولايات المتحدة حليف استراتيجي ويدرك أبعاد أن تلعب الإمارات دورا حيويا بما تمتلكه من الديناميكية ما سيساعد الغرب على الخروج من الأزمة. روسيا أيضا تعرف تماما أن الإمارات، وهي واحدة من أهم الدول التي تمتلك استثمارات في الاقتصاد الروسي، يمكنها المساهمة في خلق فرص للتهدئة.
الإماراتيون واقعيون في ممارساتهم السياسية، ويمتلكون من الرصيد السياسي ما جعلهم يخرجون من الاختبار الأول في مجلس الأمن الدولي بتفوق كبير سيستثمر لاحقا في عملية سياسية تبدو فيها أبوظبي مالكة لقناة التواصل الأكثر ثقة وحيوية. تحويل الموقف الإماراتي لحجر زاوية لحل الأزمة العاصفة بين روسيا وأوكرانيا سيعتمد على ما يمكن أن تقدمه الأطراف من تنازلات في مواقفها السياسية لخفض التصعيد واستعادة التهدئة والتخفيف من حالة الاستقطاب الحادة جدا.
بمقدور العرب، عبر الدبلوماسية الإماراتية أن يكونوا فاعلين في رسم السياسات الدولية في القرن الحادي والعشرين، فلديهم من الخبرات التراكمية الكثير، ويمتلكون من الإرث الحضاري ما جعلهم يحولون بلادهم إلى بلد منتج ومبتكر للصناعات التحويلية وإلى لاعب اقتصادي رئيسي بين الاقتصاديات الكبرى عالميا، وهذا رصيد إضافي يمنح القوة الدافعة لتلعب الإمارات دورا سياسيا واسعا يقوي مكانة العرب ويجعل صوتهم مسموعا في عالم جديد يتحول شيئا فشيئا
العرب الدولية