سام الجباري
صبر وكبرياء وعزة: رثاء خالٍ عظيم
إلى جنة الخلد خالي الحبيب، سيخلدك التاريخ من القادة الجنوبيين القدماء ونضالك الممتد من عام 1994م.
الخال صالح محمد ناصر الجباري: تاريخ مليء بالكفاح والمغامرات
خالي من مواليد حالمين (لكمة الذيبة) من أسرة عريقة مكافحة، والده الشيخ محمد ناصر أحد أبرز شيوخ قرى حالمين.
كان هامة من هامات الجنوب شامخًا كشموخ جبال ردفان، وصبره كصبر أيوب، وحبه للوطن كحب الابن لأمه.
ترعرع ونشأ في كنف أبيه الشيخ محمد ناصر محمد الجباري.
درس الخال صالح محمد في المدرسة الابتدائية مجتهدًا مثابرًا ناجحًا، كما كان يحكي لنا، ثم انتقل إلى الثانوية، ومنها إلى المعهد العسكري، ثم التحق بالكلية العسكرية للطيران لدولة الجنوب آنذاك، وخدم وطنه فكان خير القادة في معسكر الجنوب للطيران.
ألتحق بالقوات الجوية الجنوبية في قاعدة بدر العسكرية بحور مكسر بالعاصمة عدن، ومن هناك تحول إلى مطار العند اللواء التاسع الرادار، وأفنى ثلث عمره فيه، وكان من أفضل العاملين فيه، يتنقل بين جميع مطارات الجنوب من مطار عتق والمثلث إلى مطار المهرة ومطار حريص، حيث أخذ دوره في هندسة الرادار، وكان من المتميزين الأول.
من عام 1977 إلى عام 1994م، ضرب خالي المثل بتاريخه الوظيفي في خدمة دولته والقوات المسلحة الجنوبية.
حتى حل الكابوس المظلم: احتلال اليمن لدولة الجنوب، حيث قام الاحتلال اليمني بإقصاء وقتل الكوادر الجنوبية، فَلَجَأَ الخال صالح الجباري ورفاقه بأحد الطائرات إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث مكثوا فيها سنوات عدة، تاركين وراءهم أسرهم ووطنهم المسلوب.
ظنت أسرته وأقاربه أن خالي قد قُتل مع الذين قُتلوا على يد النظام اليمني من أفراد وقوى الجيش الجنوبي، عانت أسرته هي الأخرى من معاناته خارج البلاد وحزنهم على فقدانه طيلة تلك الفترة.
عاد خالي خلال العفو الذي صدره الاحتلال اليمني للمبعدين الجنوبيين خارج البلد، مع ثلة من قيادته وعساكر الجنوبية، عادوا إلى وطنهم حاملين معهم همًا كبيرًا وحبًا لوطنهم، وعلمهم، ومكانتهم في الدولة التي صادرها نظام صنعاء.
كان حال خالي كحال أغلب الجنوبيين الذين هُمِّشوا وأُقْصِوا وحُرِموا من مستحقاتهم، حتى رواتبهم ضئيلة عكس ما كانوا عليه في عهد دولتهم الجنوبية.
عانى الخال صالح محمد الجباري معاناة أخرى في وطنه، لم يجد دولة تعطي له مكانته التي تليق به، ولا راتبًا متواضعًا يعيل أسرته، راتبه لا يُقَدِّر تاريخه ووظيفته التي كان عليها، فقرر الهجرة، لكن كانت ظروفه لا تسمح له، فحاول أن يقترض أو يستعير، إلا أن خالي معروف بعزة النفس وكبريائه، لم تطاوعه نفسه على ذلك.
فبِالعزيمة والإصرار خرج خالي من وطنه إلى أرض الغربة، يسعى فيها ويعيل أسرته، فنجح بذلك.
غنى له الفنان علي صالح اليافعي أغنية شرحت معاناته ومأساته، وعتابه لمن خذلوه، عبرت تلك الأغنية عن مأساة كانت في جوف خالي.
تقول في طليعتها:
كريم رحمان سالك شد من أزري
يا عالم الغيب وأنت الواحد الغيوم
إليك رجواي أن تنظر إلى أمر
لعا تخليني أخضع عزّي محروم
أنا أحمدك حمدًا لا يحصى مدّى دهري
يكافل الرزق وأنت الباعث المعلوم
يقول أبو صقر ولا نص من عمري
وخيرت أيامي ذي راحت وأنا مهموم.
استمر خالي عدة سنوات في الغربة، متنقلاً بينها وبين وطنه، مثل أي مغترب آخر، حتى أصبح أولاده رجالاً.
جارت الأيام على خالي ففقد أحد رجليه ولم يعد يحس بها، فأصبح قعيدًا. سافر إلى الهند لعله يجد علاجًا، لكن القدر لم يُمهله، وظل خالي مقعدًا.
عاش خالي مع هذا الوضع، يصارع الحياة بكل طاقته، ولم يستسلم أبدًا. كان كال جبل لا يسند ظهره!
رغم كل ذلك، ظل خالي خادمًا لوطنه وقضيته الجنوبية، وهو على الكرسي. كان القادة في المجلس الانتقالي الجنوبي يأخذون منه العِبَر ويتعلمون منه. لم يكن خالي قائدًا ومعلمًا في الرادار فقط، بل كان له نظرة ثاقبة في بحر السياسة وسلك العسكري بكافة مجالاته.
أتذكر مرة من المرات أعطاني هاتفه لإصلاح تطبيق الواتساب، فدخلتُ عن طريق الخطأ على محادثة له مع أحد قادة المجلس الانتقالي، فأخذ الجوال من يدي معاتبًا إياي بشدة على قراءتي للمحادثة.
ترك خالي الحبيب في حياتنا فراغًا كبيرًا، وألمًا لا نستطيع تجاوزه. فهو لم يكن مجرد خالٍ، بل كان صديقًا وخالًا وأبًا لنا، فقد التحمنا به كثيرًا. رحمه الله تعالى، وتوفاه في أحد مستشفيات الغربة، حيث كان يزور ابنه.
فارق الحياة بعد معاناة من مرضٍ أثر على رئتيه قبل فترة من الزمن. رحم الله خالي وأسكنه فسيح جناته.